الأربعاء 2024/02/21

آخر تحديث: 13:21 (بيروت)

الذاكرة.. طائفية أيضاً

الأربعاء 2024/02/21
الذاكرة.. طائفية أيضاً
ساعات سالفادور دالي الرخوة
increase حجم الخط decrease
لم يخطر في بالي بأنّ الحادث الذي تعرّضت له في العام 2016 سيمتدّ أثره إلى الآن. وقد كان الجانب القوي من هذا الأثر-بغضّ النظر عن سلبيّته أو إيجابيّته- يتعلّق بالعمل الوظيفي للدماغ. فقد تسبّب الحادثُ المشؤومُ بإدخالي الغيبوبة لمدة ثلاثة أسابيع، فقد كانت "الضربة" على الرأس. ولا أقصد الحديث عن الحادث حصرًا، لكنّ قراءتي لكتاب "الذاكرة الجمعيّة" (موريس هالبواش، ترجمة د. نسرين الزهر) جعلتني أتذكّر الكثير من الأشياء التي صادفتها منذ الطفولة، وهذا أمر طبيعي، لكنّ مشكلتي مع هذا التذكّر تكمن في العلاقة بين الذاكرة الفرديّة والذاكرة الجمعيّة.

فكما يقول هالبواش، خوض غمار الذاكرة الفرديّة أمرّ بالغ الصعوبة، والصعوبة تكمن في محاولة الفرد مشاركة ذاكرته الفردية مع جماعة. وقد لفتتني من الكتاب قراءة مقطع: "الذاكرة الفرديّة حدًّا للتدخّلات الجمعيّة"(ص65): " كثيرًا ما ننسب إلى أنفسنا أفكارًا ومحاكماتٍ ومشاعر، وكأن لا مصدر لها خارجنا، مع أنّها مستوحاة من جماعتنا... كمّ من مرّة نعبّر فيها عن أفكار مأخوذة من صحيفة أو من كتاب أو من محادثة أجريناها، وكأنّها قناعة شخصيّة تخصّنا". فالتدخّلات الجمعيّة قد تأتي على شكل ذكريات فرديّة لم يشاركني فيها أحد. وينقصها أمران لتندرج ضمن الذاكرة الجمعيّة، الأوّل حضور الشخص، أو الجماعة التي شاركتني الحدث "المُتذكّر"، والثاني إقناع الآخرين بأنّها حدثت معي بالواقع، وهي ليست صنيعة ذاكرتي المُتخيّلة الفرديّة.

يقول "هالبواش" : "نعبّر عن أفكار مأخوذة.. وكأنّها قناعة شخصيّة تخصّنا". وخلال قراءتي، سبحت ذاكرتي شرودًا، ودفعتني للتفكّر في إنجاز عملٍ شاركتُ فيه مع مجموعة من الأصدقاء في "اللقاء العلماني"، وقد أطلقنا على ما آل إليه عملنا كمجموعة: "مرصد الطائفيّة" (فريق من اللقاء العلماني): ".. وفي هذا السياق، سلّط هذا التقرير الضوء على عدد من الفرضّيات التي من شأنها أن تفسّر كيفّية تلاعب قوى السلطة بالخطاب الطائفي لتجييش الجمهور حول شعارات طائفّية بهدف صرف النظر عن انتهاكات للقوانين وممارسات مصلحّية ضّيقة. من خلال هذا التلاعب نجحت هذه القوى إلى الآن بإعادة إنتاج نفسها في لحظات حرجة، وجدّدت شرعيّتها الشعبويّة، بعد التحدّيات التي واجهتها بفعل انفجار الأزمات الإقتصاديّة والماليّة والسياسّية  بوجهها".

وجاء هذا التلاعب من السلطة ليسجن الفرد ضمن "طائفيّة" فرديّة. فهذا الخطاب الشعبوي، يعمل من جهة، على تجديد الولاء الأعمى لكرسي الزعيم، ومن جهة أخرى، يعمل على بناء الجدار الطائفي حول المواطن اللبناني، لينتج ما سمّيته "طائفيّة فرديّة"! ويختلف هذا المفهوم عن الطائفيّة، حيث يرسم الفرد -استنادًا إلى ذاكرته الفرديّة- فهمًا خاصًا به (كفرد) للطائفيّة، وبخلاف ما يؤول إليه قانون الأحوال الشخصيّة الذي يسجن الناس في صناديق جماعيّة، تُغذّي بقاءها "ذاكرة جمعيّة" تعيد انتاج الهوية الطائفيّة الجماعيّة نفسها، وهذا ما يبعدنا عن مفهوم المواطنة. 

وفي عودة للخطاب، لا يحفظ في ذهن الفرد (بحسب هالبواش) إلاّ الصورة التي رسمها الزعيم، في خطابه، أي الهويّة الطائفيّة التي تضمن لهذا الزعيم البقاء.. للأبد.

ويقول هالبواش: "إن كانت الذاكرة الجمعيّة تستمدّ قوّتها واستمرارها مما تعتمد عليه كدعامة من الأشخاص، فهؤلاء الأشخاص هم أفراد في نهاية المطاف، يتذكّرون كأفراد في جماعة من كتلة الذكريات المشتركة تلك، التي ترتكز واحدتها على الأخرى، لا تظهر الذكريات نفسها بقوّة وكثافة لكلّ واحد في الجماعة. كنّا نقول بأنّ كل ذاكرة فرديّة هي وجهة نظر تطلّ على الذاكرة الجمعيّة" (ص68).

وبعودة إلى موضوع الطائفيّة، يمكنني القول واستنادًا إلى ما أورد هالبواش في كتابه، إنّ كل إنسان يحمل ذاكرتين، فرديّة وجماعيّة، وهذا ليس إلاّ صراعًا داخليًّا، فعلى الرغم من "إنّ ذكرياته تقبع في إطار شخصيّته أو حياته الشخصيّة، حتّى تلك الذكريات التي يتشارك فيها مع آخرين لن تستثير اهتمامه إلاّ بقدر ما تميّزه عنهم..". وهذا ما يدفع "الطائفي"، إلى التصرّف ببساطة كفرد يستند على ذاكرة جمعيّة ويساهم في أن يستذكر ويصون ذكريات غير شخصيّة لكنّها تحظى اهتمامه وتعود بالنفع على وجوده الفردي. وجرّاء ذلك، تتداخل الذاكرتان، ممّا ينجم عن الإنسان الطائفي سلوكًا نابعًا من جماعة (ليست بالضرورة طائفة)، للحفاظ على هويّة جمعيّة انتجهتها ذاكرة جمعيّة في منطقة مُحدّدة بعيدًا من الكيان الطائفي.

وكأنّ الطائفة سمكة في أكواريوم، لا تتدخّل في شؤون سمكة أخرى (تختلف عنها في اللون مثلاً). لا ينتج عن "عدم" التدخّل في الشؤون الخاصّة بين طائفة وأخرى أي تواصل أو تقارب بالطبع، لكنّ يتحوّل هذا "اللاتقارب" إلى تلاحم مُدمِّر لأي "آخر" إذا ما حاول رفعَ شعارٍ الحرّية للجميع، فهذا ما تتعتبره الطوائف انفلاتًا يفتح عقول الناس على إعادة النظر في محرّمات دينيّة.

وخيرُ مثالٍ على تضامن الطوائف، لا بل الأديان، هجومها اللفظي وغير اللفظي، على جمعيّات حقوقيّة تظاهرت للمطالبة بصون الحرّيات. وكانت "هجمة" الأديان على حقوق المثليين، فهم يُطلقون عليها فئة "الشاذّين" من وجهة نظر دينيّة، كأنّ الهويّة الجنسيّة مِلك الأديان، لا الإنسان!

وما دفعني لأتناول هذا الموضوع، وربط الذاكرة بموضوع الطائفيّة، أنّ رصدنا تفاعلاً مع مواضيع تضمن استمرار "الطائفيّة الفرديّة" من دون الوعي لاستغلال الطبقة الحاكمة لجمهورها، من خلال استخدام خطاب تجييش وتعزيز الكراهيّة بين الفئات التي تقبع في "كومفورت زون" سمّيتها "الطائفية الفرديّة"، وهذا ما داخل أحد القانونيين في اللقاء تسميتها: "الطائفيّة السياسيّة"!

ويقول هالبواش عن كل فرد من أفراد الجماعة: .."إنّ ذكرياتي الشخصيّة مكتملة في داخلي ولي وحدي". وكأنها الطائفيّة بحسب هالبواش أيضًا: "أن التاريخ يشبه في الواقع مقبرة، مساحتها محسوبة، حيث ينبغي أن نجد باستمرار حيّزًا جديدًا لقبور جديدة.. فالذاكرة الجمعيّة تغلّف الذواكر الفردية من دون أن تختلط بها". وكما يقول زياد الرحباني: 19 واحد، أي هودي مش 19، هودي واحد وواحد وواحد..".

مشكلة الطائفيّة في لبنان، هي مشكلة "ذاكرات" مختلفة، وتأبى كلّ ذاكرة أن تعترف بذاكرة الآخر قبل طائفته.. على اللبنانيين أن يتصارحوا بذاكراتهم ويتصالحوا معها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب