الثلاثاء 2023/10/24

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

الهويات القاتلة

الثلاثاء 2023/10/24
الهويات القاتلة
خطاب شارل جبّور لا يمثّل الشباب والأطفال، فهو من جيل الحرب الأهليّة التي تبدّلت ملابس مقاتليها، وشُرّعت لهم ملابس "مسؤولين"
increase حجم الخط decrease
كم أزعجني الفيديو المُتداول عبر وسائل التواصل الإجتماعي، لتصريح المسؤول الإعلامي لحزب القوّات اللبنانيّة، وقد فكّرتُ فورًا بكتابة مقال عن الموضوع. والموضوع الذي يعنيني هو الهويّة. فقد أنهيتُ منذ فترة دراسةً نظريّة من خلال بحثٍ أنجزته عن الهويّة اللبنانية! وقد تطلّب منّي البحث قراءة العديد من الكتب التي أراها مهمّة لمفكّرين وكُتّاب متخصّصين. وما لفتني جدًّا وأذكره للفيلسوف الهندي أمارتيا صن، في كتابه "الهويّة والعنف.. وَهم المصير الحتمي"، جملة أذكرها من الكتاب (ليس حرفيًّا): "إنّ التضامن هو شعور قد يجمع فئة محدّدة تعيش سويّة، وفي الوقت عينه، يخلق هذا الشعور بالتضامن مع جماعتك، نفورًا وكرهًا لجماعة مختلفة"...

وما أدهشني، المستوى المُتدنّي لمسؤول الإعلام في حزبٍ سياسي! ومصطلح "مُتدنّ"، أستخدمه بوضوح، استنادًا لخبرتي في مجال التواصل اللاعنفي. ولست على غيمة بعيدة من الواقع المرير، ولا أودّ الدخول في لغة تصنيف البشر، سياسياً، اجتماعياً، ودينياً.. لكنّ حرصي على شراكتي مع شخصٍ يشاطرني مفهوم "المواطنة" بما يعكس هويّة لبنانيّة، دفعني لأن أكتب الآن... ولا يكفي أن نعترض على خطاب تحقير الآخر. فماذا سنفعل إذًا؟

بالنسبة إليّ لا أتوانى عن النضال والعمل في المجال التربوي والشبابي لمواجهة هذه اللغة. ويمكنني الجزم بأن خطاب شارل جبّور، لا يمثّل فئة الشباب والأطفال. نعم، فبرأيي هو من جيل "الحرب الأهليّة"، التي تبدّلت ملابس المقاتلين فيها، وشُرّعت لهم ملابس "مسؤولين" برعاية دوليّة ومباركة عربية واستضافة "طائف-يّة"!

ليست مشكلتي هي الإختلاف. ومن الضروري أن أُعلن بأنّ التغيير الشخصي، لا يحصل إلّا من خلال وعي يبدأ باتّخاذ القرار الجريء: الخروج من "المساحة المريحة". نعم، فمنطقة الأمان هي الصندوق الذي يفصلك كُليًّا عن العالم الخارجي. يوهمك بأن كلّ ما يخالف عاداتك وسلوكك وأفكارك.. هو عدوّ لوجودك. وهذا ما يوضح لنا الشعار الذي أطلقه، إبّان الحرب الأهليّة، مؤسّس حزب الكتائب بيار الجميّل: "ما لنا لنا، وما لكم لنا ولكم!"، للأسف هذا ما كان يختصر مفهوم الشراكة في الوطن!

وبالعودة لتصريح جبور، فهو لا يعتبر تصريحًا سياسيًا، حتّى لو صدر عن مسؤول حزبي، إذ يفتقر إلى "اللغة المعياريّة" التي تجعله في مصاف الخطابات والتصريحات السياسية. والنظرة الضيّقة الإيديولوجيّة من قبل جمهور حزبٍ معيّن، لخطاب زعيمهم، تؤكّد بأن لغته "الصحّ وبس"، فلا أحد يقول عن "زعيمه عِكِر"! وقد أُطلقت على اللغة صفة "المعياريّة"، لأنّ من المُتوجّب أن تحمل معايير قيميّة، فلا تحمل صفات وألفاظاً تقلّل من شأن واحترام الآخر. فكيف نحلّل تصريحاً لمسؤول إعلامي يحتقر الآخرين، ويعلن حكمه المُسبق، لا بل المترسّخ في عقله، بأن الآخرين (ويقصد الشباب اللذين عبّروا عن غضبهم بالتكسير أمام السفارة الأميركيّة في عوكر)، بأنّهم يعيشون في الخيَم بالتأكيد! وقد انفعل بأن استخدم مفردات تعكس موقفه من التظاهرات، فهو يراها غير مُجدية: كفاكم تظاهراً في مناطقنا...حلّوا عنّا بقى.. طلع ديننّا منكم.. ومن الإستحالة أن نتشارك في المواطنة مع هؤلاء. ومستوى التحقير بلغ الذروة في استعمال السيّد جبّور مُصطلح "دنّسوا المنطقة". ومن الطبيعي، في ظلّ غياب "المواطنة" أصلاً في لبنان، أن يُنتج الإعتراضُ على سلوك عُنفي (وهذا قد يكون صائبًا) خطابًا يحمل من الكراهيّة تراكمًا مُكدّسًا منذ بداية الحرب الأهلية، فيتّضح من كلام جبّور أنّ القصة: ليست بوسطة عين الرمّانة، بل القلوب المليانة!

من أساسيّات التواصل اللاعنفي، أن تُعبر أوّلاً، ثم تختار الطريقة الأمثل للتعبير بشكل يعكس فهمك واحترامك وتقديرك للآخر، الشريك في الوطن. أودّ أن أسأل السيّد جبّور: ألا يحقّ للشباب أن يعترضوا على دعم أميركا السافر لجرائم إسرائيل؟ وهل ترضى بشريك في الوطن، يسكت عن قتل الأطفال اأبرياء؟ وكيف تبرّر قصف مستشفى؟ وكنيسة؟ وجامع؟ لستُ سياسيًّا، لكنّي تربويّ، وبحسب خبرتي التربوية، أُصنّف خطابك، بالفئوي والطائفي الذي يُحقّر الآخر ويحرّض عليه ويلغيه من الوجود، فينفي الشراكة في الوطن الواحد، المكوّن أصلاً من طوائف مسجونة في قانون أحوال شخصيّة طائفي زرعه الاستعمار. لكي تكون مواطنًا، عزيزي، ينبغي أن تطرد الخوف من الآخَر أوّلاً. وطرد الخوف لا يكون إلاّ بقبول الإختلاف، وفهم الآخر واحترامه. أعذرني سيّدي، حلّ المشكلة، لو أردتَ حلّها، ألا تطلق شتائمك على الآخرين، فكما يقول عمر الخيّام: "الجنّة والنار هما في ذات نفسك".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب