السبت 2024/01/13

آخر تحديث: 11:24 (بيروت)

الأنبياء والصورة

السبت 2024/01/13
الأنبياء والصورة
المسيح بتعابير حداثية (لوحة للفنانة هيلدا حياري)
increase حجم الخط decrease
لطالما كانت الرسائل السماوية لمختلف الأديان، عصيّة على عقول العامّة من الناس. وهذا ما دفع بعض الفلاسفة وعلماء الدين، إلى اعتماد فكرة "التأويل" لتفسير ما هو عصيٌّ على الفهم. حيث أنّ الإدراك عن طريق الحواس هو الأسهل عند الناس للمعرفة والفهم. وخوف الناس من تصوير المُقدّس جعل المُخرِجين الذين يودونّ تجسيد قصّة النبي محمد مثلاً، في فيلم أوّ مُسلسل، لا يُسندون الشخصيّة إلى ممثّل مُعيّن، بل يستبدلون شخصيّة النبي بهالة من النور. وهذا مردّه خوفهم من المسّ بالمقدّسات.

والسؤال البديهي: هل كان مُعاصرو النبي محمّد يرونه بقعة ضوء!؟

وعلى العكس، ففي الديانة المسيحيّة لا مشكلة في تجسيد صورة المسيح الذي صُلب وعُلّق على خشبة. وجدير بالذكر، أنّ الإسلام رفض فكرة التجسيد بحسب القرآن (سورة النساء): "وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ".

وبعودة إلى تجسيد صورة الأنبياء (وتحديدًا المسيح)، لن أدخل بالطبع في النقاش عن تحريم إظهار صُوَر الأنبياء. لكن ما أودّ طرحه، هل تُستثنى الأنظمة السياسيّة من تحريم "إظهار الصُوَر"؟ وهل تتدخّل الأنظمة السياسيّة لإظهار الصورة النمطيّة (خصوصاً الأنبياء) التي تميل إليها، ثمّ تعمل على نشرها؟

سأتطرّق للحديث فقط عن السيّد المسيح وعلى سبيل المثال فقط لأناقش الموضوع المُلفت. فيحدُث أن تُصادف في حياتك اليومية ومن خلال وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، صورتين للسيّد المسيح، صورةٌ تُظهِرُه بلون بشرة سمراء تعكس ملامح سكّان بيت لحم القاسية التي تميل إلى السّمرة. وصورةٌ أخرى تُظهره بعينين زرقاوين وشعرٍ مائل إلى الشقار! ولا أعلم إن كان تحريف الصورة يخدم طرفًا ما، لكنّ المؤكّد أن الصورة التي تنطبع في ذهن المجتمع الغربي وكلّ من يتابع الوسائل المذكورة، هي صورة مُغايرة للواقع، وملائمة لصورة تناسب المعتقد الذي يملأ قلوبهم بالأمان المنشود!

من المُمكن أن تكون صورتا السيّد المسيح قد لفتتا نظري لأطرح السؤال: هل الصورة الحقيقية للأنبياء في الواقع ضحيّة الأيديولوجيّات السياسيّة؟ وهل تلك الأنظمة السياسيّة فقط، باستطاعتها تخطّي المُقدّس لتسويقِ صور تريدها؟

إن اختلاف المعتقدات والأيديولوجيّات السياسيّة، هو السبب الرئيس لوجود صُوَر مُتعدّدة لحقيقة واحدة، وبالتالي ينعكس هذا الاختلاف السياسي في تعدّد "صُوَري" ظاهر. هناك تصوّرات تصدر عن عموم البشر بعد تلقّيهم وفهمهم لأي رسالةٍ، بشريّةً كانت أمّ إلهيّة. وتنتج هذه التصوّرات إدراكات لبعض المفاهيم، التي تختلف، حُكماً، بحسب طبيعة اختلاف البشر. والإشكاليّة التي تواجه البشر في هذا المجال تحديدًا، تكمن في قدرتهم على تلقّي وفهم الرسائل السموية. فاستقبال الرسائل يقع في مجالين لدى المُتلقّي، الإدراك الحسّي والإدراك العقلي.

والمجالان المذكوران يُمكن إدراجِهما في نطاق العمليّات العقلية. فخلال الإدراك الحسّي يذهب الفرد للتركيز - باتّباع عمليّة عقليّة- على المحيط الخارجي، وذلك من طريق استقبال منبّهات خارجيّة تدخُل العقل من باب الحواسّ. ويعمل العقل على تفسيرها وتأويلها بحسب الخبرات والتجارب التي وضعت الأفراد ضمن اتّجاهات ذاتية متنوّعة تُفضي إلى أسباب الإختلاف في إظهار صُور مُتعدّدة لحقيقة واحدة. فالاتجاهات الفردية هي حق مؤكّد، هذا لو بقيت ضمن مسار بناء الهويّة الفرديّة تحت مظلّة حرّية الخيار والحقّ بالاختلاف.

ومن ناحية علميّة بيولوجيّة، يمكن الحديث عن الاختلاف وإخراجه من نطاق "الحقّ" إلى نطاق "التعقيد في عملية الإدارك". فيمكن القول، أنّ "الإدراك" من العمليات النفسية التي تُبنى على مسار بيولوجي يُساق من الدماغ، وهذا ما يخوّل الفرد التعرف والوصول إلى معاني الأفراد والأشياء. فالمثيرات الحسّية على اختلافها، يمكن تفسيرها وصياغتها في وحدات مستقلة بدماغ الفرد لتحمل معانيها الخاصة.

والمشكلة تَحدُث عند خلط تلك الوحدات المُستقلّة، فيختلط الإدارك الحقيقي للمفاهيم، وبالتالي ينحصر عمل دماغ الفرد على تبنّي المفاهيمَ السائدة المُنتشرة من دون عناء التفكير بحريّة اختيار مستقلّة ومعتمدة على عمل هذا العقل. أمّا التعريف الشامل للإدراك، بحسب أحد المراجع فهو: "عمليةٌ عقليةٌ نفسيةٌ، تساعد الإنسان على معرفة عالمه الخارجي، والوصول إلى معاني الأشياء ودلالاتها، وذلك من طريق تنظيم المثيرات الحسية، لتفسيرها وصياغتها في كليّات ذات معنى. ويعتبر الإدراك العقلي عملية عقلية تقوم على استنباط واستخراج المعاني الكلية المجردة من الصور الخيالية التي تنتج بشكل أساسي من عملية الإدراك الحسي والصور الحسية". فالمسار يبدأ بيولوجيًّا مع الحواسّ ثمّ يخضع للعقل، المرتكز في تكوين رصيده المعرفي للمفاهيم على العمليّات الحسّية، ونستنتج هنا بأن المعتقدات السائدة هي وليدة عملية حسّية تترسّخ في الدماغ.

والمثال المُقنع الذي نمرّ به جميعًا، عن المسار البيولوجي للأجهزة في جسم الإنسان: تلمس بيدك سطحًا ساخنًا جدًّا (الحواسّ)، فتدخل المعلومة عبر الأعصاب (الجهاز العصبي)، لتنتقل المعلومة (سخونة السطح) إلى الدماغ، فيصدر أوامر بالهروب وإبعاد اليدّ عن السخونة. وهذا التصرّف ينبع من غريزة حماية الذات. هكذا، تجهد الأنظمة السياسيّة للعِب دور الجهاز العصبي، وإقناع عقول بعض التابعين بأنّ الصُور التي تنشرها وتتداولها، هي الحقيقة التي يجب على العامّة اتّباعها واعتناقها ولو كانت مقدّسات.

فالناس يتلقّون المفاهيم (الصور) عبر جهازها العصبي، ليعمل الدماغ أتوماتيكيًّا، بتأكيد صِحّتها، فتكاسله يؤدّي إلى العجز عن التفكير النقدي. ليُثمر تكاسل الدماغ هذا تبريرًا على المستوى النفسي فينتج منطقة تُدعى منطقة الراحة (comfort zone). ونستنتج بالنهاية، أن الصور المختلفة لا تنبع من واقع حقيقي كما هو بالفعل، لكنّها نتاج العالم الداخلي الذي استبدله البشر بمناطق صنعتها اتّجاهاتهم الفرديّة الذاتيّة، لذا كان سؤالي: هل المسيح أسمر ذو ملامح قاسية، يقاوم الصلب ويرفع الإضطهاد عن شعبٍ مظلوم؟ أمّ انّه أشقر بعينين زرقاوين، خرج للتوّ من شاشة فيلم غربي وقتل الممثّلين والمخرج والمنتج، ويحاول قتل المشاهدين جميعًا؟ تاج الشوك الذي وضعه الصهاينة عند صلبِ المسيح، نُزع هذه المرّة، ليضع الفلسطينيّون تاجَ غارٍ على مسيح بيت لحم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب