السبت 2023/09/02

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

مهرجان البندقية (2).. سيارات قاتلة وغوّاصات ووحوش دكتاتورية

السبت 2023/09/02
increase حجم الخط decrease
افتتح مهرجان البندقية السينمائي دورته الـ80 بعرض فيلم إيطالي يعيد التذكير بشخصية بطولية من زمن الحرب العالمية الثانية، لكنه يحمل في الوقت ذاته حنيناً مريباً وخطاباً دعائياً. فيما عرض مايكل مان فيلم "فيراري"، عن سيرة إنزو فيراري، مع التركيز على الأحداث القاسية التي غيّرت حياة رجل الأعمال الإيطالي في العام 1957. بينما قدّم التشيلياني بابلو لاراين أول الأفلام "الثقيلة" في مسابقة هذه النسخة، بعملٍ يعيد إحياء الديكتاتور بينوشيه الذي لم يمت ولكنه صار مصّاص دماء عجوز، قرّر بعد 250 عاماً في هذا العالم أن يموت نهائياً، بسبب أمراض ناجمة عن شعوره العار.... ثلاثة أفلام من المسابقة الرسمية تتباين موضوعاتها وجودتها.

"القائد"..
هل يمكننا حقاً أن نتوقع ألا يخلّف التحوّل السياسي نحو اليمين في إيطاليا بصماته على مهرجانها السينمائي، الذي ظل عالمياً على مدى عقود من الزمن؟ بالطبع لا. الدليل حاضر منذ البداية في "البندقية"، الذي لم يبخل وزير الثقافة الإيطالي جينارو سانجيوليانو (تولّى منصبه بناءً على اقتراح من رئيسة الوزراء ما بعد الفاشية جيورجيا ميلوني)، بذكره في صولاته اللفظية. حتى الآن، فضّل الوزير إلقاء اللوم على تمويل الأفلام في وصولها إلى ما يصفه بـ"ديكتاتورية الصواب السياسي". برأيه، لا يُسمح بإنتاج إلا "أفلام يسارية"، بعد فحص مسبق لمواقفها. هذه السيادة اليسارية المزعومة ينوي الآن استبدالها بسيادة "يمينية"، بادئاً بشبكة التلفزيون الوطنية RAI (التي عمل فيها سابقاً) والتي طلب منها إنتاج المزيد من أفلام السيرة الذاتية عن العظماء المقربين من الفاشية مثل غابرييل دانونزيو ولويجي بيرانديللو.

في ضوء هذه المعطيات، قد يكون فيلم "القائد" Comandante من إخراج إدواردو دي أنجيليس، الفيلم الافتتاحي للمهرجان، المستوحى من قصة حقيقية من الحرب العالمية الثانية تبرز بطولة قبطان غوّاصة إيطالي؛ فيلماً يروق للوزير اليميني. فالبطل هو سالفاتوري تودارو (يؤدّي دوره بييرفرانشيسكو فافينو)، الذي، خلافاً للوائح الإيطالية والألمانية، أصرّ على إنقاذ ضحايا السُفن العدوة التي أغرقها. ما يُصوَّر درامياً هنا على أنه انتحار صريح، باستخدام مثال إنقاذه طاقم سفينة شحن بلجيكية تبحر تحت العلم البريطاني، لم يمنع الألمان لاحقاً من منحه وسام الفارس الصليبي الحديدي.

"القائد"، الذي حلّ في افتتاحية البندقية بديلاً طارئاً للأميركي "متحدّون" للمخرج لوكا غواداغنينو، والذي وقع ضحية إضراب ممثلي هوليوود؛ هو فيلم حرب صاخب، على الطراز القديم، قصة رجال تُبعد فيها النساء إلى الهامش، ويجري التركيز الحثيث على الغواصة وطاقمها تحت قيادة رجل لطالما عُرف بمتانته وصلابته. المخرج عبارة عن صفحة بيضاء تقريباً، والممثل الرئيس نجم على هذا الجانب من جبال الألب، يجسّد أبطالاً متناقضين يتمتّعون بصفات محبّبة، وفي النهاية، عندما يتعلّق الأمر بما على المحكّ، يملك بوصلة أخلاقية سليمة.

لكن إنتاج "نتفليكس" هذا بعيد كل البعد عن المحتوى السلمي الذي قدّمه فيلم حربي آخر مثل "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"، بالرغم من كل المؤثرات الخاصّة. إنه ذلك الفيلم الذي نجد فيه غوّاصاً محكوم عليه بالفشل يكاد ينقذ غوّاصته، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة فيما يتلو مونولوجاً داخلياً عن حوريات البحر. أو حيث يقوم بحَّار عاري الصدر بإطلاق النار على طائرة معادية من السماء على أنغام موسيقى عسكرية قادمة من الغرامافون. أو يكون الاحتفال الرسمي بضحايا الغواصات الإيطالية في الحرب العالمية الثانية مصحوباً بموسيقى من "Cavalleria Rusticana". وفي أحلك اللحظات يطلب القبطان من طبّاخه أن يستحضر وحدة إيطاليا من خلال قراءة أسماء الأطباق المحلّية، كما لو كان يتلو صلاة أخيرة.

مرة واحدة فقط يؤتى على ذكر موسوليني، ويحضر اسمه على نحو إيجابي نسبياً؛ لأن السياق المعني يتعلّق بالثقافة. ومع ذلك، لا تُقال كلمة واحدة عن الخلفية السياسية للحرب العالمية الثانية. لا يمكن للمرء بلع وتخيُّل فيلم كهذا إلا من بلدٍ لم تعد فيه الفاشية كلمة قذرة بالنسبة لمَن يحكموه. ما يدعو للتساؤل حقاً، هو لماذا بدأت السينما الإيطالية الآن تحديداً تحكي قصصها البطولية من عصر موسوليني، الخالي تقريباً من البطولات؟

هناك تلك النكتة الأوروبية حول أقصر ثلاثة كتب في العالم: "أسرار الطبخ الإنكليزي"، و"ألف عام من الفكاهة الألمانية"، و"الحكايات البطولية الإيطالية". ولكن بصرف النظر عن مدى واقعية قصة الفيلم نفسها، قد يبدو غريباً أن يُعرض في افتتاح مهرجان البندقية فيلم حربي لا يناهض الحرب بشكل واضح في أوقات الحرب على أوكرانيا والتحوّل نحو اليمين في إيطاليا. وقد لا يبدو الأمر غريباً على الإطلاق، بالنظر لسوابق سينمائية قديمة تحضر فيها البطولة والحرب والشوفينية في مزيجٍ دعائي يتوجّه صوب دغدغة المشاعر الوطنية والقومية. في أحد مشاهد الفيلم، يجيب القبطان الإيطالي زميله البلجيكي الذي يسأله متشكّكا لماذا أنقذه هو ورجاله: "لأننا إيطاليون"!


"فيراري"
سيارات سريعة وبزّات أنيقة وأدرينالين. "فيراري"، فيلم مايكل مان الجديد، من بطولة آدم درايفر، هو فيلم الافتتاح الحقيقي للمهرجان. ولأسباب وجيهة.

المؤتمر الصحافي لتقديم الفيلم في المهرجان كان واحداً من أكثر المؤتمرات المنتظرة لهذا الحدث، وذلك لسببين: أولاً، التوقعات الكبيرة التي يوقظها كل إصدار جديد لمايكل مان، والذي أصبح ينجز أفلامه على فترات متزايدة باستمرار؛ ثانياً، الطبيعة الاستثنائية لحضور الممثل آدم درايفر، في خضم إضراب ممثلي هوليوود.

وأكّد درايفر أن نقابة ممثلي الشاشة والاتحاد الأميركي لفناني الراديو والتلفزيون  (SAG-AFTRA)منحت تصريحاً استثنائياً (عبر اتفاقٍ داخلي) لطاقم الفيلم للحضور إلى الليدو للترويج له خلال المهرجان. وأتيح إبرام هذه الاتفاقية لأن الفيلم من إنتاج شركة STX Entertainment وتوزيع شركة O1 Distribution؛ وكلتاهما مستقلتان، أي أن العمل وُلِد خارج دائرة الاستوديوهات والمنصّات الكبرى. وقال درايفر: "أنا فخور جداً بوجودي هنا كتمثيل مرئي لماهية الإنتاج المستقل، وفعالية التنازلات التي تسمح بإنتاج أفلام مستقلة"، موضحاً أن زيارته لا تمثل سوى خدمة بسيطة "لوقف النزيف في عالم السينما قليلاً والسماح للناس بمواصلة العمل"، لكنه شدّد على أنها تطرح في الوقت نفسه سؤالاً كبيراً: "لماذا يمكن لشركة توزيع صغيرة (مثل "نيون" التي توزّع فيلم "فيراري" في الولايات المتحدة) أن تمتثل للمطالب (النقابية) في حين لا تستطيع شركة كبيرة مثل "نتفليكس" أو "أمازون" ذلك؟".

وأشار إلى أنّ الإعفاء الذي استفاد منه الفيلم "يوضّح بشكل أكبر حقيقة أنّ البعض مستعدّون لدعم الأشخاص الذين يتعاونون معهم، والبعض الآخر لا"، معبّراً عن "السعادة والفخر بالمجيء إلى البندقية لدعم هذا الفيلم". وأضاف: "لكلّ هذه الأسباب، لا داعي للقلق في شأن اتخاذ قرار بدعم نقابتكم، وأنا هنا من أجل ذلك، لإظهار تضامني والتأكيد أنّ ما يهمّ حقاً هو الأشخاص الذين تعملون معهم". وقد أيّد مايكل مان موقفه، وأكّد من جديد استقلالية إنتاج فيلمه: "لقد قطعنا أنا وآدم رواتبنا لجعل التصوير ممكناً، ولم يكسب أحد في الاستوديو أموالاً من الفيلم".

في الحقيقة، قرّر مايكل مان القيام بهذا الاقتباس "قبل عشرة أو اثني عشر عاماً على الأقل"، كما يتذكّر باتريك ديمبسي، الذي يمنح الحياة للسائق بييرو تاروفي في الفيلم. ويقول المخرج، الذي شارك أيضاً في إنتاج أحدث أفلام سباقات السيارات التي حققت نجاحاً كبيراً بين النقاد المتخصصين، فيلم "لومان 66" للمخرج جيمس مانغولد: "لقد رنّت أجزاء من حياته مع رؤيتي للوجود، على الرغم من أننا مختلفون تماماً". إلا أن "فيراري" لا يريد أن يكون سيرة ذاتية، ولا تعليقاً على مسؤولية إنزو فيراري عن الوفيات العديدة التي ابتليت بها حلبات السباق في الخمسينيات (مات 39 سائقاً)، حتى إن داومت الصحافة على الإشارة إلى هذه الحقائق وإبراز تصريحات رجل الأعمال القاسية وغير المسؤولة. عبارته الأشهر تقول: "كلما جعلتهم [السائقين] غير مرتاحين، كلما قادوا بشكل أفضل".

يوضّح درايفر بقوله: "سيكون لكل شخص رأي مختلف حول فيراري، لكن هذا الفيلم يدور حول الخسارة، وعن العلاقة التي كانت تربطه بكل النساء في حياته". النساء اللائي يشير إليهن هن، زوجته والمؤسسة المشاركة لشركة المحرّكات لورا فيراري (بينيلوبي كروز)، وعشيقته لسنوات، لينا لاردي، والدة ابنه الثاني بييرو (شايلين وودلي). ولم تحضر أي منهما المؤتمر الصحافي للفيلم. يشرح مايكل مان: "لقد اخترت هذا العام، 1957، لأن فيه تلتقى العديد من الصراعات التي ميّزت حياة إنزو: تُفلس الشركة، ويفقد ابنه الأول، وينهار زواجه، ويبدأ بييرو في الشك في عائلته... هذه الصراعات عالمية وتجتمع في حياة فيراري بطريقة أوبرالية ودرامية للغاية".


من ناحية أخرى، يبدو أن الممثل الأميركي لا يولي أهمية خاصة للدورين اللذين جسّد فيهما أيقونتين إيطاليتين: في فيلم "بيت غوتشي" للمخرج ريدلي سكوت، إلى جانب ليدي غاغا، بصفته حفيد مؤسس شركة الأزياء؛ والآن في "فيراري"، تحت قيادة مايكل مان، يؤي دور إنزو فيراري مؤسس شركة السيارات الإيطالية. إلا إن اهتمام المخرج بحقائق قصّة وسيرة المؤسس الإيطالي ثانوي، ويوضّح هذا بقوله: "السير الذاتية خطّية ويمكن العثور عليها في أي قناة وثائقية، فهي لا تهمّني. أن تموضع قصة شخصية في مودينا، في العام 1957، يعني إعطاء لحظة ملموسة للغاية للحدث، الذي لا يزال دراما مصدرها الحقيقي أفضل بكثير مما يمكنني اختراعه على الإطلاق". ويكمل مان فكرته: "بالرغم من أن هذا يشبه أنثروبولوجيا ثقافية: عليك الدخول في الهياكل الاجتماعية لمكانٍ وزمانٍ ملموسين للغاية (...). فإن أصعب شيء يمكن فهمه هو السلوك والسيكولوجية الاجتماعيين: ما كان طبيعياً وما لم يكن كذلك. علاقته مع لينا لاردي أو لورا، التي كانت امرأة عادية جداً في وقتها".

أراد مان أن يجعل استعادة المشهد تجريدية، لكن هذا لا يعني أن إعادة بناء العالم المعني غابت عنها العناية بالتفاصيل: "أنا مهووس بتنفيذ الأمر بشكل صحيح". وأوضح المخرج أن السيارات التي ظهرت في الفيلم صُنّعت باستخدام نسخ مطابقة للأصل، وقاموا بمسحها وتصنيعها من الصفر، في حين أن ضجيج المحركات المسموع في الفيلم يعود إلى سيارات ذلك الوقت. والفيلم أيضاً لا يدور حول السيارات، كما يعترف صنّاعه. يقول آدم درايفر: "لسنا مهتمين بالسباقات ولكن بالحالة الذهنية التي يدخل فيها المتسابقون. في اندفاعة السباق، تصبح أكثر انتباهاً ويجب أن يكون لديك تركيز كامل، لأنك في خطر مطلق". ويقول عن إنزو، شخصيته، "لقد حمى نفسه من الموت من خلال بناء المحركات والحضور المطلق". قبل أن يختم حديثه بالقول: "من الصعب ألا تتفلسف حين تتحدّث عن محرك سيارة. كيف تترابط الأجزاء، انتظار التوقيت والإيقاع المثاليين، والثقة في ردود أفعالك وحدسك.... إنه شعور جميل جداً ويجعلك تدرك عدد الأشياء التي يمكن أن تذهب في الاتجاه الخطأ".

حين رؤيته، يتمتع "فيراري" بالفعل بخصائص العمل المتأخر المميّز لصانعه، إذ يعاود من جديد الفكرة المركزية لمان: رجال في حركة مستمرة، مدفوعون بعملهم. آدم درايفر في دور إنزو فيراري اختيارٌ مضاد تقريباً، لأن لعبته التمثيلية ترفض أي ديناميكيات خارجية. في سينما الحركة (التي يعدّ "فيراري" جزءاً منها، إضافة إلى كونه بمثابة دراسة للشخصية) يجسّد درايفر جمود الجمهور، ما يخلق توتراً داخلياً لافتاً. "فيراري" هو سينما الرجال المستأنسة: كل شيء يدور في فلك "الحديدة" التي يرسل فيها إنزو سائقيه لخوض سباقات الحياة والموت، لكن هذا الجسم الفولاذي يحتوي أيضاً مأساة ذاتية. هذا عمل سينمائي على الطراز القديم بطريقة كلاسيكية، دون أن ينجح في أن يكون مُنعشاّ. مؤامرة هوليوودية تقليدية ومثيرة وميلودرامية. فيلم غير قادر على نقل الشخصية والطاقة والعاطفة. على الرغم من أن مخرجه فنان موهوب بشكل استثنائي في السرد البصري، إلا أنه لا يقدم جديداً في طرح موضوعه أو إنجازاً على مستوى الشكل.

"الكونت".. سياسة ووحوش
أصبح التشيلياني بابلو لاراين معروفاً لكثيرين في السنوات الأخيرة بأفلام سيرية جريئة وأصلية مثل جاكي (2017)، حول جاكي كينيدي المذهولة بالحزن في الأيام التي تلت مقتل زوجها رئيس الولايات المتحدة؛ ودراما الملكية والقصور الخانقة "سبنسر" (2021)، عن الأيام الأخيرة من زواج الأميرة ديانا بمَن سيصبح لاحقاً ملك بريطانيا. وهو الآن يركّز مرة أخرى على الصدمة التي تعرّض لها وطنه والتي ألهمت أفلامه الأولى: دكتاتورية بينوشيه.

في جديده، "الكونت"، المنافس في المسابقة الرسمية للمهرجان، يخلق لاراين عالماً شبحياً بديلا/موازياً باللونين الأبيض والأسود، مستوحى من التاريخ الحديث لتشيلي. يصوّر الفيلم بينوشيه، رمز الفاشية العالمية، كمصّاص دماء، لم يمت أبداً، بل أصبح خالداً يعيش مختبئاً في قصرٍ مدمّر في الطرف الجنوبي البارد من القارة. يغذّي شهيته للشرّ ليحافظ على وجوده. بعد 250 عاماً من الحياة، قرّر بينوشيه التوقف عن شرب الدماء والتخلّي عن امتياز الحياة الأبدية. لم يعد باستطاعته تحمُّل أن يتذكّره العالم كلصّ وطفيلي. على الرغم من الطبيعة المخيبة للآمال والانتهازية لعائلته، يجد إلهاماً جديداً لمواصلة عيش حياة مليئة بالعاطفة الحيوية والثورة المضادة من خلال علاقة غير متوقعة.

ما يقدّمه لاراين هنا عبارة عن مزيج لافت بين الرعب والهجاء السياسي، نسخة لاتينية و"فامبيرية" من مسلسل "خلافة" Succession. عملٌ ساخر وحزين وشديد السواد، يستحق كتابة منفردة حين يُعرض في "نتفليكس" منتصف الشهر الجاري، بعد أن تبدأ عروضه في صالات بعض البلدان الغربية، الخميس المقبل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها