الإثنين 2022/11/07

آخر تحديث: 11:16 (بيروت)

"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"...بين مصممّي الحرب ووقودها

الإثنين 2022/11/07
increase حجم الخط decrease
حين نشرها قبل مئة عام تقريباً، اُستقبلتْ رواية الألماني إريش ماريا ريمارك "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"(1929)، باعتبارها انعكاساً لأهوال الحرب، والضغوط الجسدية والنفسية والعقلية الفادحة التي يتعرّض لها الجنود أثناء الحرب، والخسارة المطلقة لما يسمّى عادة بالإنسانية. ومع ذلك، لم يكن هذا الاستقبال أو تلك القراءة عالمية، إذ قام العديد من القرّاء في بلده بفلترة النص عبر قروح الهزيمة والإذلال التي كانت لا تزال مفتوحة حينها. حُظرت الرواية داخل ألمانيا أثناء الفترة النازية (33-1945)، وأُحرقت في احتفالاتٍ نازية عامّة، وسُحبت الجنسية من ريمارك في العام 1938 فاضطر للعيش في سويسرا.

في العام 1930، قام الأميركي لويس مايلستون بتقديم النصّ للسينما في نسختة الشهيرة (مشهد الأيدي المبتورة الموصولة بالسلك ما زال صادماً اليوم كما كان بالأمس)، وبالتالي وُلد أول فيلم كلاسيكي كبير في تاريخ السينما المناهضة للحرب، مع الاعتذار من فيلم "المسيرة الكبرى" (1925، كينغ فيدور). ليس من قبيل الصدفة، أن هذا الفيلم أيضاً حُظر في ألمانيا بعد صعود هتلر إلى السلطة، بتهمة الانهزامية ومعاداة الجرمانية و"عيوب" أخرى تنسجم مع النزعة العسكرية التي كانت على وشك البدء في إعادة بناء نفسها.

في العام 1979، ظهرت الرواية في الشاشة الصغيرة بتوقيع الأميركي أيضاً ديلبرت مانّ. والآن، يصل هذا التكييف السينمائي(*) الألماني والجديد للرواية، إلى "نتفليكس"، بعد جولة في مهرجانات مثل تورونتو وزيورخ. إذن، هذا هو الاقتباس السينمائي الثالث للرواية، والسؤال لا مفر منه: هل كان ضرورياً نقل قصة الجندي بول بويمر وحياته على الجبهة الغربية خلال الحرب العالمية الأولى، إلى الشاشة، مرة أخرى؟

لا فيلم "ضرورياً" بالمعنى الدقيق للكلمة، لكن التذكير بأن جميع الحروب مدمّرة بطبيعتها، بطرق لا تعد ولا تحصى وخفية، لا يؤذي أبداً. يقترح المخرج إدوارد بيرغر نسخة تتماشى مع زمننا (أو بالأحرى الزمن الأوروبي)، مجاوِراً الوحشية الفجّة للبشر والهدوء الوادع للطبيعة لتوجيه رسالته المناهضة للحرب بشكل فعّال.

الدقائق الأولى من الفيلم هي أفضل ما فيه: نحن في منتصف ربيع العام 1917 وقد مرّت بالفعل أكثر من ثلاث سنوات على بدء الحرب العالمية الأولى. واحدة من المجازر العديدة تحدث في الخنادق في الجبهة الغربية للقتال (يقدَّر أن ما مجموعه ثلاثة ملايين جندي قضوا في هذا الصراع لاحتلال بضع مئات من الأمتار، فيما بلغ مجموع ضحايا الحرب 18 مليوناً)، والجثث الألمانية المكدّسة في أكوام تُجرَّد من زيّها المدمى والمثقوب بالرصاص. تُوضع في أكياس، وتُنقل بالقطار، وتُغسَل في أحواض كبيرة، ويُعاد توضيبها وإصلاحها بواسطة جيش من الخيّاطات الدؤوبات، وبمجرد انتهاء عملية إعادة التدوير الطويلة، تعود مرة أخرى إلى معسكرات التدريب لتسليمها إلى المجنّدين الجدد.

واحد منهم هو بول بويمر (الممثل المسرحي فيليكس كاميرر في أول أدواره للسينما)، المستميت للانتساب للجيش والقتال في الجبهة. ورغم أنه لم يُستدعى بعد، إلا إنه يزوّر توقيع والده على أوراق تطوّعه، لأنه لا يريد أن يكون الشخص الوحيد الذي يبقى في القرية. لقد بلغ لتوه الثامنة عشرة من عمره، والرغبة في المشاركة في المعركة، والقتال من أجل القيصر والله والوطن، أقوى من أي خوف. بطبيعة الحال، أول اتصال له مع حقائق الحرب يدمّر تماماً أي صور مثالية كان قد تبنّاها قبل أيام. عندما يذهب لإجراء فحصه الطبي، يُعطى واحداً من تلك الأزياء، ما زال يحمل اسم الجندي الذي ارتداه سابقاً. "هذا يخصّ شخصاً آخر"، يقول بول البريء. فيجيب الضابط ساخراً: "ربما كان صغيراً عليه ولا يناسبه"، ثم يزيل الملصق المكتوب عليه اسم الجندي المقتول ويعيد للشاب زيّه العسكري. آلة الحرب اللاإنسانية بكل أبعادها الدموية المفجعة.


على مدار الساعتين التاليتين من الفيلم، نرى فظاعة هذه الحرب "اليدوية" من وجهة نظر بول، الذي ينتقل من يوفوريا الوطنية المتدفقة إلى المعاناة من اللامبالاة المتزايدة لرؤسائه، ممن يرون أمثاله وقوداً للمَدافع، مجرد تروس في آلة القتل والدمار، جزءاً من التضحية اللازمة لنيل غرض أسمى. في طريقه لبيان وحشية الحرب وعبثيتها، يتبع الفيلم قصتين رئيسيتين: قصة بول بويمر، الذي يتضاءل شغفه الصبياني بالحرب مع كل خطوة دموية يخطوها نحو خط المواجهة، وقصة ماتياس إرزبرغر (دانيال برول)، السياسي الألماني الواقعي المكلَّف بالتفاوض على وقف إطلاق النار بين القوات الفرنسية والألمانية.

مَشاهد الحرب الجماعية في الخنادق مصوّرة بشكل جيد وفعّال مع الكثير من اللقطات المتسلسلة، لكنها ليست شيئاً لم نره من قبل في "1917" (2019، سام مينديس) و"إنقاذ المجنّد رايان" (1998، ستيفن سبيلبرغ) و"فول ميتال جاكيت" (1987، ستانلي كوبريك) و"الخطّ الأحمر الرفيع" (1999، تيرانس ماليك) أو حتى الوثائقي "أبداً لن يشيخوا" (2020، بيتر جاكسون). لكن الحبكة الفرعية السياسية بأكملها (بعد أن يقفز الفيلم بالأحداث 18 شهراً ويجري خلال الأيام الأخيرة من المواجهة مع القوات الألمانية المنهارة بالفعل)، والتي تتضمن مفاوضات الهدنة مع الفرنسيين، تخطيطية إلى حد ما.

لا تُظهر نسخة بيرغر، بطل الرواية في إجازة، ولو مرة واحدة: تشكل اللقطات سلسلة متصلة من الحياة بالزي العسكري تمتد حتى العام 1917 وتبلغ ذروتها خلال اليوم الأخير من الحرب قبل الهدنة. في موازاة ذلك، يسجّل الفيلم محاولات الخصم السياسي للصراع ماتياس إرزبرغر، الذي اغتيل بعد ثلاث سنوات من انتهاء الحرب، لوقف المذابح. هذه هي أكثر المشاهد التخطيطية للفيلم، إذ تتبع مسار السينما التاريخية الأكثر بدائية وتقاطع الحبكة المركزية من دون المساهمة بأكثر من التوضيح وشرح البديهيات، كما لو أن إمكانية الخروج من المجال لم تكن موجودة. تتجلّى الشخصية الملحمية للقصة في لقطات الهجوم الأول للبطل وزملائه في السلاح، بدعم من كاميرا جيمس فريند، والذي يستبعد الصبغات المشبعة في مشاهد المعركة، باستثناء الأحمر الدموي الغامق، لبناء لوحة جافة وقوية للرعب.

المواجهة النهائية مع العنف القاتل والاعتراف بالجنون، تأتي مع تحديث للمشهد الذي لا يُنسى من نسخة مايلستون: قبل وبعد معركة بالأيدي في حفرة من الوحل والدمّ. في الغارة الأخيرة، قبل دقائق من بداية قرار وقف إطلاق النار، التي نصّبها الفيلم كمثال نهائي للمسافة الفاصلة بين جندي المشاة والجنرال العسكري البارز: الأول المغروس في الوحل حرفياً ومجازياً، والثاني الجالس بشكل مريح أمام أفضل طعام متاح وزجاجة نبيذ جيدة؛ أولئك الذين يصمّمون الحرب، في مقابل مَن يعانونها يومياً، "القابلين للاستبدال".

العودة إلى الكلاسيكيات (الأدب والسينما، في هذه الحالة) ليس مبتذلاً أبداً عندما يتعلّق الأمر بتعزيز رسالة مناهضة للحرب، والاستفادة من الموارد التقنية المتاحة في الأفلام المعاصرة، وبهذا المعنى، نسخة 2022 من "كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" هذه تحقق هدفها المتمثل في "ملحمة برسالة". لكن، في الوقت نفسه، هناك شيء مكرَّر ومستعمل في رهانها. لن يسجَّل هذا الفيلم الجديد في التاريخ العظيم للسينما (المناهضة) للحرب، لكنه تذكير جيد - بعد أكثر من مئة عام على الحريق الذي لا يمكن ولا ينبغي أن يتكرر - بأن "السياسة بوسائل أخرى" ليست مفيدة أبداً، على الإطلاق.

(*) يُعرض حالياً في "نتفليكس".
(**) اختارته ألمانيا لتمثيلها في سباق جوائز الأوسكار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها