الجمعة 2023/06/09

آخر تحديث: 13:05 (بيروت)

"Succession".. سياسة وسلطة تنافس "لعبة العروش"

الجمعة 2023/06/09
"Succession".. سياسة وسلطة تنافس "لعبة العروش"
increase حجم الخط decrease
هناك أوقات يُمتع فيها التلفزيون؛ وأخرى يصنع فيها التاريخ. يوم 28 أيار/مايو الماضي، مع بثّ الحلقة الأخيرة من مسلسل "خلافة" Succession، بعد موسمٍ أخير رائع لا تشوبه شائبة، رسَّخ المسلسل نفسه بشكل نهائي في تلك الفئة النادرة من الإنتاجات التلفزيونية العظيمة. وأكثر من ذلك، أصبح صورة ومرآة لعصره.

حبكة المسلسل (المنازعة الشرسة على خلافة إمبراطورية) كانت بالفعل حبكة عمل ناجح آخر على شبكة "إتش بي أوه"، هو "لعبة العروش". وإذا وصف أحدهما المعارك من أجل العرش الحديدي للممالك السبع، فإن الآخر يروي المنافسة على منصب الرئيس التنفيذي لشركة "وايستار"، التكتّل الإعلامي المتخيّل المماثل في الواقع لإمبراطورية "فوكس نيوز" الأميركية.

على عكس "لعبة العروش"، المسلسل الظاهرة، الذي جمعت حلقته الأخيرة 20 مليون مشاهد (في الولايات المتحدة وحدها)؛ لم يحقّق "خلافة" مثل هذا الانتشار العالمي الساحق (الحلقة الأعلى تصنيفاً، الثالثة من الموسم الرابع والأخير، شاهدها 2.5 مليون شخص  في الولايات المتحدة). من ناحية أخرى، نال العمل إشادات نقدية وجوائز (52، من بينها 13 جائزة إيمي، بما في ذلك ثلاث لأفضل مسلسل درامي)، وتداعيات كبيرة في الشبكات الاجتماعية والصحافة العالمية، وصلت أصداؤها إلى المطبوعات والمواقع المتخصصة في تغطيات السياسة والاقتصاد.

كل هذا، في حدّ ذاته، يمكن اعتباره بالفعل انتصاراً لمؤلفه، كاتب السيناريو البريطاني جيسي أرمسترونغ، لأن المسلسل قدّم سرداً يصعب وصفه بالجماهيري أو سهل الهضم: حوارات قليلة، وأحداث تدور، في أغلب المشاهد، داخل المكاتب، وشخصياته الرئيسية متغطرسة، وانتهازية، ولاأخلاقية، وأنانية، ومليارديرات يحترفون التلاعب والكذب؛ صوَّرهم بشكل كاريكاتوري في الحلقات القليلة الأولى. إذا تمكنّ المتفرّج من تجاوز النصف الأول من الموسم الأول، فسيُكافئ بتحفة فنية غير متوقعة.


بدايات وشخصيات
بدأت فكرة "خلافة" تتبلور في ذهن جيسي أرمسترونغ في العام 2008. في تلك السنة البعيدة عندما انفجرت قنبلة الأزمة الاقتصادية العالمية، اعتزم في البداية كتابة سلسلة وثائقية-روائية مستوحاة من روبرت مردوخ، قطب الميديا والاتصالات في الولايات المتحدة، صاحب قناة "فوكس نيوز"، المعروفة بمواقفها الداعمة للحزب الجمهوري ودونالد ترامب والتي لا تخجل من غضّ الطرف عن الأخبار المزيّفة.

بعد سنوات، قرّر أرمسترونغ أن يأخذ بعين الاعتبار اقتراح وكيله الأميركي لتوسيع نطاق حكايته ورواية قصة عائلة ثرية تملك تكتلاً إعلامياً نافذاً. لتطوير النصّ، أجرى بحثاً عن عشائر الميديا والاتصالات. ومن هناك، تشكَّلت الشخصيات الرئيسية للمسلسل، بدءاً من الأبّ القائد، لوغان روي، الذي جسّده الممثل الأيرلندي بريان كوكس، باقتدار وإتقان. لوغان هو حجر أساس الحبكة، فهو الذي سيقرّر منذ الحلقة الأولى اعتزامه التنحّي عن قيادة "وايستار ميديا"، ومن ثمّ البحث عن خليفته الأمثل.

ثم جاءت شخصيات الأبناء: كونور، الابن الأكبر الذي يعيش في عالم يخصّه، والمبتعد بإرداته (ورغماً عنها) عن جدل الخلافة في سبيل راحته؛ ثمّ كيندال، الذي بالرغم من ضلاله الواضح وسذاجته المفرطة، يرى نفسه الأنسب لخلافة والده؛ فيما يحاول شقيقه رومان، الجامح وغير المنطقي، كسب والده من خلال الإطراء والمسايرة؛ ثم هناك شوفان (أو شيف)، العاقلة والمتعلّمة والتقدُّمية، لكن لديها، في نظر والدها، عيباً واحداً: قلّة الخبرة، ولكن في الواقع، ما يمنعها هو تفضيل أبيها لشقيقيها (لأنهما ذَكَرَين بالطبع) وأيديولوجيتها "اليسارية" المخالفة. زوجها هو توم وامبسغانس، اللطيف والحربائي، المُداهن لوالد زوجته، مع ميول سادية مازوخية واضحة، تتجلّى في خضوعه لعائلة روي وفي إساءة معاملته لموظّفي الشركة.

وأخيراً، يُختتم الأفراد الأساسيين للعائلة بغريغ هيرش، ابن العمّ الضحل، الانتهازي المتسلّق الذي يحصل على وظيفة صغيرة في الشركة عبر العمل مع توم وامبسغانس. كلاهما يشكّل نسخة "حيّة" من الشخصيتين الكرتونيتين بينكي وبرين (فأري اختبار لديهما خطط جامحة للسيطرة على العالم). يضطلع هذا الثنائي برفد المسلسل بجانبه الأكثر كوميدية، ليخفف قليلاً من حدّة الدراما والمؤامرات الزاخرة بها أحلقاته، رغم أنه في الواقع يحتوي الكثير من الفكاهة والسخرية في الحوارات وفي مواقف الشخصيات.

بورتريه للرأسمالية في أقسى حالاتها
كرمزٍ لعصره، بدأ المسلسل تصويره في اليوم التالي للانتخابات الرئاسية الأميركية العام 2016. اعتبر جيسي أرمسترونغ أن حملة ترامب، وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتلاعب الإعلامي في تلك الفترة كانت عوامل أساسية لإقناع المديرين التنفيذيين في "إتش بي أوه" بأهمية إنتاج المسلسل. كان هذا في خضم انفجار الأزمة الديمقراطية في العديد من البلدان الغربية، مع تقدّم الشعبوية اليمينية في جميع أنحاء العالم تقريباً، وكان المسلسل مستعداً للخوض في كواليس تواطؤ المؤسسات الكبرى، والديناميات الداخلية لإمبراطورية تلفزيونية مهيمنة، والتلاعب الإعلامي للتدخُّل والتأثير في السياسة.

بالطبع لم يكن "خلافة" رائداً في الخوض في مثل هذه المسائل، لكنه بارع في مزيجه الذي يمكن عبر تتبّع عناصره الوصول إلى الجذر النابع منه مثل هذه الإنتاجات التلفزيونية. فهو يستعين بتأثيرات العديد من الأعمال السابقة، مثل "دالاس"، و"ذي أوفيس"، و"ماد مِن"، و"لعبة العروش"، وسينما "دوغما 95"، بالإضافة إلى الأخبار المتعلّقة بالسياسة ووسائل الإعلام المهيمنة في أميركا الشمالية. 

مراجع أخرى تأتي من شكسبير (الملك لير، بالأخصّ) و"المواطن كين" (1941، أورسون ويلز)، اللذين يحظيان بتحيّة وتكريم في السيناريو والتصوير السينمائي في حلقة معيّنة من الموسم الثاني. 

كما هو الحال في فيلم أورسون ويلز الكلاسيكي، تأتي أيضاً القذارة والخِسّة والعجز والوحدة جزءاً أساسياً من حبكة المسلسل. وهناك بالطبع، مقدمته الموسيقية (وبقية موسيقاه) لمؤلفها نيكولاس بريتيل، المازجة بدورها بين مراجع كلاسيكية ومعاصرة وإحالات شعورية ميلانكولية وغامضة.


بالإضافة إلى المنافسة على المنصب، يتنازع الأشقاء الثلاثة، كيندال ورومان وشيف، بشكل أساسي على الفوز بقلب لوغان روي؛ الأبّ الغائب والبارد والسلطوي والماكر والفظّ، والذي لا يخجل من التلاعب بأطفاله وحتى قلبهم ضد بعضهم البعض. لكنه، على الأقل، موجود، على عكس والدتهم، التي لم تبال بهم قطّ. هناك الكثير من "عُقدة الأبّ" (الأمّ لها نصيب أيضاً) في هذه العملية المعقّدة والمستمرة.

حبكة المسلسل (صراع على السلطة، حرب أشقاء، مشاكل الـ0.1 %) تقدّم أفضل ما لديها: الفروق الدقيقة التي تكشف الاستياء والتنافس ونقاط الضعف. يطبّق كتّاب السيناريو الخلافَ بين الأشقاء على الهيمنة داخل الشركة/العمل، وهي ديناميكية يمكن فيها أن تأتي أكثر الضربات وضاعة وإيلاماً من قِبل أقرب المقرّبين. وكلّ شيء مُباح؛ من فضح الاعترافات السرّية حتى المساومة بزلّات لا يعرفها سوى من رافق الآخر من المَهد. أثناء حدوث هذه المواقف، يُثمر المسلسل نتيجة رائعة لمجموع النصّ والإخراج والتمثيل، حيث يتمتع الممثلون أيضاً بحرية الارتجال.

يجلب النصّ العديد من المفارقات والاستعارات والسخرية والإساءات، التي تتراوح من ألفاظ نابية إلى أشكال وخطابات لغوية غريبة ومتقنة، ومراجع ثقافية، واقتباسات من الثقافة الرفيعة كما من الثقافة الجماهيرية، تصل في بعض اللحظات النادرة إلى كسر الجدار الرابع. 

في أحد المشاهد من الموسم الرابع، تقول شيف: "دعونا نجد رجل الشمال"، قاصدة بذلك السويدي لوكاس ماتسون (يلعب الدور ألكسندر سكارسغارد، الذي لعب في الواقع دور البطولة في فيلم "الشمالي" (2022) للمخرج روبرت إيغرز)، صاحب شركة كبيرة للتكنولوجيا وشبكات التواصل الاجتماعي.

يصبح ماتسون شخصية مهمّة وكاشفة في الحبكة، لأنه إذا تفاخر لوغان روي، ذات يوم، بمساهمة إمبراطوريته الإعلامية في تنصيب العشرات من الرؤساء، فمن ناحية أخرى، وبالتوازي مع المنافسة حول خلافة "عرشه"، تؤكد الحبكة التحديات التي تواجهها مثل هذه الإمبراطوريات الإعلامية المعاصرة في الحفاظ على أهمّيتها في مواجهة القوة المتزايدة لوسائل التواصل الاجتماعي وكبرى شركات التكنولوجيا.

في لحظة معيّنة، حتى إن تجاهلوا قضايا مُلحّة، مثل أزمة المناخ، يدرك أفراد عائلة روي أنه من أجل بقائهم كأعضاء في نادي الـ0.1 %، يتعيّن عليهم التحالف مع "العصر الجديد"، وهذه هي النقطة التي ستسبّب الاضطراب الأكبر في المسار المستقيم للمسلسل. فنظراً لاعتيادهم التلاعب بالسياسة والتقلّب مع الموجة بما يخدم مصالحهم الشخصية، يعرفون أكثر من غيرهم أن نتيجة الانتخابات في أيامنا الحالية (السياق هنا أميركي بامتياز، لكن يمكن سحبه على أي بلد آخر) تعتمد على الأداء على الشبكات الاجتماعية أكثر من اعتمادها على الأخبار والحقائق.

إرث عظيم
"خلافة"، الذي بدأ، حين عرضه، كمسلسلٍ غريب ضمن كتالوج "إتش بي أوه" الاستثنائي، استوى موسماً بعد آخر، حتى نضج وصار قادراً على إزعاج وجذب اهتمام الـ0.1 % الحقيقيين، الذين لم يتوان يوماً عن تصويرهم (عن حقّ) كذواتٍ مشوّهة تعوزها الأخلاق والمبادئ وأبسط مقادير الإنسانية. 

من الأمثلة على انتشاره وسط هذه الشريحة الاجتماعية الصغيرة والمميّزة، ظهور أخبار تفيد بأن محاميّ رجل الأعمال روبرت مردوخ أدرجوا بنداً في وثيقة طلاقه من زوجته السابقة جيري هول (زوجة ميك جاغر السابقة أيضاً) يقضي بألأ تُعطي عارضة الأزياء السابقة أي معلومات إلى كتّاب المسلسل، الذي استفاد، بالمناسبة، من تصوير موسمه الأخير قبل بدء إضراب كتّاب هوليوود.

الإضراب، الذي بدأ في أوائل أيار/مايو في الولايات المتحدة، أوقف بالفعل العديد من الإنتاجات التلفزيونية والأفلام. حتى الآن، تشير التقديرات إلى أن الإضراب كلّف هوليوود بالفعل حوالي 720 مليون دولار، أكثر من الـ429 مليون دولار المطلوب صرفها لتلبية مطالبات المحتجّين. من بين المطالب: الاستقرار والأمان المادي، بما أن المسلسلات اليوم أقصر مما كانت عليه في الماضي، والمشاركة في أرباح أفلام ومسلسلات منصّات البثّ؛ بما يعني أن تكشف المنصّات سرّها الأكبر حول الأرقام الحقيقية لجمهور محتواها.

أياً يكن، فنجاح "خلافة" دليل نهائي وحاسم على أهمية كتّاب السيناريو، وبرهان إضافي على استحالة حلول الذكاء الاصطناعي محلّ الإنسان، أقلّه في كتابة مثل هذه الحوارات والحبكات الجامعة بين مشاغل وقضايا ومراجع. من بين شعارات الاحتجاجات، التي رفعها المتظاهرون في نيويورك ولوس أنجلوس، كان المسلسل حاضراً: "خلافة بدون كتّاب سيناريو = عمل تافه"، و"ادفعوا لنا وإلا سنخرّب حبكة "خلافة" بكشف نهايتها". هذا، طبعاً، قبل بثّ الحلقة الأخيرة منه. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها