الخميس 2024/05/09

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

"عائدة"...لا ألزهايمر ولا موت إن عاد رمادها إلى يافا

الخميس 2024/05/09
increase حجم الخط decrease
"عائدة"، فيلم كارول منصور الجديد، يروي عدداً من القصص والمشاغل الفلسطينية: الأرض، المنفى، الاقتلاع، الشعور بالانتماء، الظلم، حبّ الوطن، وأكثر.

في هذا الفيلم الوثائقي المؤثر، هناك قبل كل شيء ذكريات، ثم العودة الرمزية إلى البيت الأول لعايدة عبود منصور، المولودة في يافا العام 1928 والمتوفاة في بيروت 2015. بعد وفاة والدتها عايدة، حافظت المخرجة كارول منصور على رمادها، في انتظار نداء من القدر.

تنطلق كارول بمساعدة مجموعة من الغرباء المتعاونين في رحلة/فيلم طريق لإعادتها إلى فلسطين. عشية مغادرتها بيروت، توافق صديقتها تانيا حبجوقة، وهي مصوّرة أردنيّة- أميركيّة مقيمة في القدس الشرقيّة، على نقلها إلى وطنها. لاحقاً، تسافر الناشطة والمسرحية الفلسطينية رائدة طه من رام الله إلى حيفا ثم إلى يافا، للقاء تانيا حبجوقة والانضمام إليها في البحث عن بيت عبود. تتابع كارول منصور رحلتهما عبر مكالمات فيديو على هاتفها الخلوي (صوِّر الفيلم بالكامل تقريباً عبر الهاتف). وبعد العثور على منزل عبود (الذي تسكنه الآن عائلة إسرائيلية)، تتسلّل المرأتان إلى الحديقة وتسكبان رماد عايدة عند سفح شجرة.

خلاصة شاعرية نوعاً لفيلم وثائقي حميم مُشبع بالمشاعر والحنين، متعدد القصص والطبقات. فحتى بعد رحيلها، عادت والدة كارول منصور إلى بيتها، لتنتصر المخرجة الفلسطينية اللبنانية لحق العودة ولكل فلسطيني تهجّر من أرضه منذ النكبة، وتحقّق حلم أمها بالعودة الى مسقط رأسها في مدينة يافا المحتلّة، وإن بعد وفاتها. وكانت عايدة قد أوصت بحرق جثتها ونثر الرماد على شاطىء يافا الجميل حيث كانت تستجمّ في صباها.

ورغم أن الإطار العاطفي والحزين لفيلم منصور الأخير يمثل أحد التناقضات اللافتة للنظر، فنجمة الفيلم هي والدة المخرجة نفسها، والتي كان موتها بطبيعة الحال مصدر حزن. إلا إن رحيلها مقدّمة الفيلم وليس موضوعه الذي يوثّق خطة رسمتها المخرجة ومنتجتها لإعادة عايدة إلى مسقط رأسها في يافا المحتلة. تنفيذ هذه الخطة سيأتي بقدر معتبر من التخريب وروح الدعابة. تقول كارول منصورلـ"المدن": إنه فيلم حزين بطبيعة الحال، لكن كثيرين أخبروني أنهم ضحكوا كثيراً أيضاً". وبالفعل، تتناوب على الفيلم حالات وأمزجة متنوعة ومتكاملة، فهو مؤثّر حيناً وحزين حيناً، ومؤلم أحياناً. 

كما أنه يجاور الضحك والبكاء في رحلة مزدوجة: رحلة الخسارة حيث تتصارع عايدة مع الألزهايمر، محاربةً فقدان الذاكرة والهوية، وواجدةً العزاء من فراش الموت في بيروت في "عودتها" المتكررة إلى يافا وفلسطين أيام شبابها؛ ثم رحلة العودة النهائية إلى يافا وفلسطين حيث ستستريح أخيراً وتسترجع كيانها.

العودة إلى الوطن/البيت، وإن بعد حين، بالفعل أو بالاحتيال؛ جوهر الفيلم ومكمن ثقله. تأخذنا منصور إلى بيت جدّها لأمها، البيت ذاته الذي اضطرت أمها للنزوح منه، مثل 800 ألف فلسطيني تحت وطأة التهجير الإسرائيلي، ومغادرة فلسطين بأكملها إلى برمانا بلبنان، على أمل العودة بعد فترة قصيرة. لم يدر في خلد الفتاة العشرينية حينها أنها ستترك بيتها ووطنها إلى الأبد، وأنها ستمضي العقود السبعة اللاحقة من حياتها في تمنّي العودة المستحيلة. عاشت العائلة النازحة سنوات في لبنان (حيث عملت عايدة في بنك فلسطين)، لكن مع غرق بلد الأرز في عنف الحرب الأهلية، اضطرت العائلة للعودة إلى المنفى، واستقرت هذه المرة في مونتريال، كندا. بلد بارد، لكنه مضياف، وهناك أيضاً لم تنس بيتها الأول، فأصرّت بعد حصولها على الجنسية الكندية تسجيل مسقط رأسها في جواز السفر الكندي.


يروي الفيلم الأحداث الأخيرة في حياة عايدة، وقبل كل شيء، رحلة رمادها. ليست مهمة سهلة، مع وجود العديد من العقبات التي يجب التغلّب عليها. على سبيل المثال، اضطرت منصور إلى وضع الرماد في كيسين من البلاستيك، في حال صودر أحدهما خلال مراحل رحلتهما المختلفة. سافر الرماد أولاً إلى بيروت بمساعدة حبجوقة وصديقها المصور الصحافي بيتر فان أغمايل، قبل عبور الحدود بين عمّان والضفة الغربية. استغرق هذا العمل الإنساني المؤثر خمس سنوات ليكتمل، وصدر الفيلم الوثائقي في 2023 وعُرض منذ ذلك الحين في العديد من المهرجانات.

تعد منصور من بين مخرجي الأفلام الوثائقية غزيري الإنتاج في لبنان. بشكل عام، يمثل المجتمع اللبناني بؤرة اهتمامها، وفي السنوات القليلة الماضية أنتجت أفلاماً عديدة تدقق في جوانب تجربة اللاجئين السوريين وقصص النساء العاملات في المنازل. في حديثها لـ"المدن"، تعترف كارول منصور بأنها "فوجئت عندما اختارت والدتها حرق جثتها. لكنها حين فكّرت في الأمر رأت أن السبب على الأرجح أنها لم تجد بيتاً أو مقاماً تُدفن فيه أعزّ من بيتها الأول".

كما تحرص كارول منصور على التوضيح بأن إنتاج فيلمها لم يكن مدفوعاً بإنجاز مهمة شخصية فحسب، وهي تحقيق أمنية والدتها الحبيبة. إنما يعود انغماسها في هذه المغامرة أيضاً إلى حقيقة تماسّها مع منظور جماعي وعالمي. تقول منصور: "في جميع أفلامي، أعمل على حقوق الإنسان، لأن الفن أداة. ليس الأمر كأن لدي مهمة، لكن إذا لم يكن لدي هدف، أشعر بالفراغ. هذه رحلة حميمة وشخصية للغاية، وفي الوقت نفسه لها صدى لدى مئات الآلاف من الأشخاص المصابين بألزهايمر، بالإضافة إلى مئات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتظرون العودة إلى ديارهم. لو كان الأمر يتعلق بي فقط، لما صنعت هذا الفيلم".

وهكذا، فالفيلم ليس مجرد تكريم لماضي عائلة المخرجة الضائع، ومحاولة لاستعادة جزء من ذاكرة فردية وجماعية، وإنما أيضاً لفتة شعرية وتأكيدية لجميع هؤلاء الفلسطينيين المنفيين الممنوعين من العودة إلى أوطانهم، حتى بعد الموت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها