الثلاثاء 2022/05/31

آخر تحديث: 14:07 (بيروت)

"الشمالي" لروبرت إيغرز.. مبهر وبلا روح

الثلاثاء 2022/05/31
increase حجم الخط decrease
تجنباً للفّ والدوران بخصوص فيلم "الشمالي"(*) للمخرج روبرت إيغرز، فأول ما يمكن قوله عنه أنه فيلم مبهر، لكن بلا روح تقريباً. في كل لقطة هناك بصمة مؤلف بأفكار بصرية تهرب من الصيغ الجاهزة، "ميزانسين" غير تقليدي وفي العديد من الجوانب محفوف بالمخاطر. ومع ذلك، فإن الأمر الثاني الجدير بالذكر هو أن الفيلم الروائي الثالث لهذا المخرج البالغ من العمر 38 عاماً، يفتقر إلى القدرة على المفاجأة والابتكار الحاضرين في عمليه السابقين "الساحرة" (2015) و"المنارة" (2019)، وكلاهما على قدر كبير من الجودة ويشهدان بموهبته في إدارة الممثلين كما في بناء العوالم. أما هنا، فإلى جانب اللمعان الشكلي والكون المشيَّد، نحن أمام قصة تقليدية ومكرورة عن الانتقام والثأر، تدور رحاها داخل عائلة وأساطير إسكندنافية (من مناجاة إله الآلهة أودين إلى الانتهاء الأبدي في فالهالا).

تبدأ القصة العام 915 من وجهة نظر الأمير أمليث (أوسكار نوفاك)، وهو صبي يبلغ من العمر عشر سنوات يعيش مع والدته الملكة جودرين (نيكول كيدمان)، ووالده الملك والمحارب أورفانديل (إيثان هوك)، غراب الحرب. تتغيّر حياته (والبقية) تماماً بعد أن يشهد مقتل والده على يد عمه فيولنير (كلايس بانغ)، الذي يستولي على العرش وزوجة أخيه المغدور. يتمكّن الصغير من الفرار، وبعدما أمضى سنوات مع الفايكنغ المتعطشين للدماء (هناك مشهد يغيرون فيه على قرية ويحوّلونها حمّام دم حقيقياً)، يصبح مقاتلاً محنّكاً بعضلات صخرية ووجه جامد طوال الوقت (يقوم بدوره ألكسندر سكارسغارد). عندما يحين الوقت، ينتحل صفة أحد العبيد، لينتهي به المطاف في آيسلندا (بالرغم من تصوير أغلب الفيلم في إيرلندا)، حيث لجأ عمّه المغتصب الذي يدير مزرعة ويحكم مجموعة مقاتلين، بعدما زالت مملكته على يد مغتصب آخر. إنها بداية طريق الانتقام الذي سيشمل قصة حبّ مع عبدة أخرى تُدعى أولغا، تلعبها آنيا تايلور جوي (مثّلت سابقاً في أول أفلام إيغرز، "الساحرة").


وعد لم يَفِ به أحد
بداهة، بدت فكرة صنع فيلم فايكنغ مستوحى من الملحمة الإسكندنافية التي ألهمت ويليام شكسبير كتابة "هاملت" فكرة بارعة، على أقل تقدير. وبالنسبة لهذا المشروع، بقيادة الممثل السويدي ألكسندر سكارسغارد، مع انضمام المزيد والمزيد من الأسماء الكبيرة إلى المشروع، بدءاً من المنتج المخضرم والجاسوس السابق أرنون ميلشان (مارتن سكورسيزي، وتيري جيليام، وريدلي سكوت، وجيمس غراي، وديفيد فينشر هم بعض المخرجين في لائحة مشاريعه). ثم انضمام كاتب السيناريو الأيسلندي والشاعر الشهير سيون ("راقصة في الظلام" و"لامب") إلى طاولة كتابة السيناريو، لإضفاء المزيد من الجدية و"الأصالة" عليه، والمخرج روبرت إيغرز، الذي كان فيلماه الأولان كلاهما أفضل من الآخر. لإكمال الكعكة، طاقم الممثلين: الصاعد سكارسغارد بصفته أمليث الوحشي (الذي لا يملك شيئاً بصفته أميراً نبيلاً)، بالإضافة إلى نيكول كيدمان بصفتها والدته الشريرة بلمحات من إجرام ودهاء الليدي ماكبث، وإيثان هوك والده المغدور وأساس كل الحكاية، وكلايس بانغ في دور عمّه الغادر، أنيا تايلور جوي كحبّه المستحيل، بالإضافة إلى الشخصيات الداعمة – أو ضيوف الشرف بلغتنا- ممثلة في ويليم دافو والمغنية الأيسلندية بيورك، وهما يلعبان على التوالي دور ساحر وساحرة يوجّهان بطل الفيلم على طول طريقه المظلم والقاتم والكئيب.

ومع ذلك، لا يمكن أن تكون النتيجة أسوأ، بالرغم من الموازنة البالغة 90 مليون دولار. أو ربما حدثت هذه النتيجة بسببها تحديداً. يمكن القول إن "الشمالي" يمثّل واحدة من تلك الحالات التي ينتهي فيها الثقل الهائل للإنتاج بخنق أي منفذ للإبداع، بدءاً من النصّ نفسه، المطبوع بعدمية متفشية، كما لو كان القرار النهائي هو التخلّص من الفكرة الأصلية، التي امتلكت جوهراً ووجاهة، وتحويل الفيلم إلى مجرد فيلم انتقام مبتذل مثل أفلام كثيرة غيره. وفي حين تتساقط أقسام الانتقام من فم جانب أو آخر (هناك واحد منها كل 5 دقائق تقريباً في فيلم يستمر لأكثر من ساعتين)، بالدرجة ذاتها من الجدية والحذر، ينتهي الأمر بإثارة ضحكات وابتسامات لا-إرادية. هذا كله بعيداً من المفارقة المضحكة عن الفارق العمري بين نيكول كيدمان وسكارسغارد الذي يمثّل دور ابنها والذي لا يتجاوز سبع سنوات، ناهيك عن أنهما لعبا دور زوجين قبل 5 سنوات فقط في السلسلة التلفزيونية الشهيرة "بيغ ليتل لايز".

الناجية الوحيدة
في كل من "المنارة" و"الساحرة"، أظهر إيغرز أنه بموارد اقتصادية قليلة كان قادراً على خلق أكثر القصص والأجواء المزعجة. وليس هذا فقط، فقد حقق أيضاً عمق المعنى الذي غالباً ما تفتقر إليه أفلام الرعب أو الفانتازيا. هنا يحدث العكس تماماً، فعلى عكس التركيز الدرامي والمكاني لفيلميه السابقين، في "الشمالي"، كل شيء مشتّت ويفقد قوته على طول الطريق. هناك عدد كبير جداً من الشخصيات والمواقف والمواقع والمؤثرات الخاصة. هناك الكثير من العناصر التي لا تضيف للسرد إلا القليل. وما يتم سرده أساسي للغاية لدرجة أنه يعيد إلى الأذهان قصة فيلم "300" (2006، زاك سنايدر) بفائض ذكوريته وتستوستيرونه وضحالته، الأمر الذي يمثّل تناقضاً صارخاً لسينمائي شاب موهوب قدّم في "الساحرة" مقاربة نسوية حاذقة ورقيقة، بينما في "المنارة" سخر وضحك على الرجولية العبثية لأبطاله.

الممثلون ليسوا أفضل حالاً. بغض النظر عما يحدث له، فإن سكارسغارد هو نفسه دائماً: عضلات صخرية، حنجرة طليقة، بلا عاطفة. أقل ما يمكن أن يقال عن إيثان هوك – وهو نموذج للممثل المعاصر المحترم - هو أن الطريقة التي يتقمّص بها دورأحد ملوك الفايكنغ، عبارة عن سوء فهم/إسناد أدوار كبير. والمشهد بجوار الساحر الذي يؤدّيه ويليم دافو مربك بعض الشيء، كما لو خارج من حفلة تنكرية لرجال يُفترض فيهم الوقار. آنيا تايلور جوي، التي كان أداؤها جيداً في فيلمها السابق مع المخرج، تحضر هنا بالكاد كمختصر كليشيهات رومانسية. الناجية الوحيدة، على ما يبدو، هي نيكول كيدمان في أفضل حالاتها، والتي تعرف في خضم هذا المستنقع كيف تمنح ملكتها الشهوانية جرعة من الأذى والشرّ الذي يبدو حقيقياً وخالصاً، على عكس الزيف الرقمي/البصري السائد حولها.

إبهار وعدمية
بين رحلات القوارب، والبراكين المتفجّرة، ومشاهد المعارك الزاخرة بالدماء والأشلاء، مروراً بانقطاعات سردية حلمية تروي مشاهد أسطورية؛ يبني إيغرزعالماً لا يفشل في البداية في إخضاعه. لكن، في مرحلة معينة، يقع الفيلم فريسة لطنانيته وجدّيته الفائضتين، معطوفاً على  ألاعيب أسلوبية مجانية تُفرض على العمق النفسي للأحداث والشخصيات وتبتلعها، وبالتالي، في مثل هذا الغلاف المبهرج، ننتهي إلى متابعة أحداث ملتهبة محبوسة داخل إطار درامي محدود نسبياً، وحتى في مقاطع معينة، يبدو أجوفاً وفارغاً إلا من قرقعات وضوضاء الموسيقى التصويرية الصاخبة.

في هذا الإفراط الأسلوبي، أي بانتصار الشكل على المحتوى، شيء مشابه لما يحدث مع بعض أفلام الدنماركي نيكولاس ويندينغ ريفن، الخبير الشكلاني الجمالي الآخر الغارق أيضاً في قصص انتقام الذكورة المُهانة وبهرجات أضواء النيون. بصفته كاتب سيناريو، فإن نتيجة ما يقدّمه إيغرز أقل إقناعاً في ما تبيّن أنه تنويعة جديدة لكن باهتة على النصّ الشكسبيري ومأساة الأمير المنتقم لوالده، تؤلّف رحلة تخطف الأنفاس حول الفقد والانتقام والذكورة في فيلم هوليوودي مدجّج بالنجوم.

في الأخير، يبقى هذا الفيلم التستوستيروني والعدمي مبهراً، كما أسلفنا، بالرغم من عوزه الشديد للإقناع في مواضع كثيرة، لكنه يستحق المشاهدة في أكبر شاشة ممكنة، لأنه من حيث تصميم الرقصات والمرئيات والمشهديات السمعية-البصرية المضخّمة والمفخّمة، فإن المتعة مضمونة.

(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها