الأربعاء 2023/08/16

آخر تحديث: 12:52 (بيروت)

رمانة كوع الكحالة

الأربعاء 2023/08/16
رمانة كوع الكحالة
صور فادي بجاني في ا لكحالة(المدن)
increase حجم الخط decrease
تُستخدم المرآة المُحدّبة في الطرق الجبليّة -خصوصاً في حال وجود "كوع قويّ"- لتسهيل مرور المواطنين وللحفاظ على سلامتهم. لكنّنا في لبنان، تكمن معاناتنا في "أكواعٍ" طائفية كـ"كوع الكحّالة".

فقد كتب محمود حيدر رئيس تحرير فصلية "مدارات غربية": "ولقد رأينا كيف فعلت الطائفية فعلتها لتحيل تلك الموقعية إلى فصل حميم من فصول حركتها وإذ نتأمل مزايا المواطنة في لبنان سنلاحظ أن اللبناني يعيش مواطنة مثلثة الأبعاد:
- فهو في سياق الانتماء الطائفي، مواطن في طائفته، يدين بالولاء لقياداتها المدنية والدينية ولأجهزتها القضائية ولتقديماتها الخيرية والاجتماعية.
- وهو أيضًا يعيش مواطنة جغرافية مثقلة بالرموز والتاريخ البعيد والحديث.
- وهو أخيرًا مواطن لبناني ينتمي قانونيًا وحياتيًا إلى الجمهورية اللبنانية، ومؤسساتها الدستورية والإدارية والقانونية. ويضيف حيدر: ".. ولا تكون صفة المواطنة إلا لمن يكون ـ طبقاً للدستور والقانون ـ له الحق في المشاركة في حكم بلاده، من خلال مؤسسات الحكم السياسية والقانونية والدستورية"...

وهذه المقاربة القانونيّة الدستوريّة، أشبه بالحلم المستحيل!
فالمشاركة في "الحكم" تَصلُح في حال وجود هويّة سويّة وانتماء يحترم مفهوم المواطنة. فالمواطنة هي المفهوم الذي تنضوي تحته مكوّنات الوطن كافّةً. الطائفي هو مواطن له الحقّ في ممارسة مواطنته. وليست وصمة أن يكون المواطن مُلتزمًا بطائفته وتابعًا لتعاليمها الدينية. بل من الإشكاليات الكبرى في لبنان، هو مسألة الخلط بين العام والخاص. فالطائفة مساحة خاصّة، ويحق لأي مواطن أن يمارس انتماءه الطائفي داخل منزله العائلي. وبرأيي ليست الهويّة الخاصّة للعرض أمام العموم. وقد صُودف وجودي في الفرن لشراء الخبز، وجود أحد الأشخاص يصطحب ابنه الصغير، فأخبر جميع الحاضرين بأن ابنه: "صايم وعمره خمس سنين!" ولو اعتبرنا أن هويّة هذا الإنسان سويّة، فهل نخلص إلى أن الهويّة (وهنا الجزء الديني فقط) تفرض على الطفل أمورًا لا يقوى عليها؟

في حديثي عن الهويّة السويّة، أجزم بأنّ أي هوية تحملُ جانبًا خاصاً وآخر عاماً. أو بالأحرى، هناك هويّة فرديّة وهويّة جماعيّة. وحقوق الإنسان ترسم الفارق بين الفردي والجماعي. فلو أيقنّنا أن الدستور اللبناني يكفل صون الحريّات الفردية القائمة على حقوق المواطن، فهل سيكفل دستورنا الحريّة التي ظهرت كـ"قلوب مليانة مش رمّانة" على كوع الكحّالة؟

لا يجوز أن يكون "نشر الغسيل" (بحسب العلم العمراني والتمدّن) على الشرفات المطلّة على الشارع. فالشرفة مساحة عامة وهي عُرضةً للمارّة، ولكي أكون واقعيًّا، آخذًا بعين الاعتبار لبنان كما هو، فالتكوين الطبقي للمجتمع اللبناني، يحكم بأن الميسورين بمختلف انتمائهم المناطقي الطائفي.. هُم فقط من يملك مساحة توفّر له مكان لنشر غسيله داخل أسوار الفيلاّ أو القصرأو البيت الكبير! وليس "نشر الغسيل" سوى مثال على موضوع المواطنة، وكيفيّة تعاطينا معه. فما يسبق موضوع المواطنة إلى عقول البشر، سوى التربية الطائفيّة. فالأطفال هم ضحايا فكرة "الطائفيّة" التي أزاحت مفهوم المواطنة، وأدخلت إلى قلوب بعض الناس الولاء إلى الطائفة، ولا يعنيهم الإنتماء للوطن. ولو تدرّجنا بالحديث عن الطائفيّة، لأيقنّنا بأن المسار التدريجي، بدأ بإقناع العامة بأن انتماءهم الديني والتزامهم به في الدنيا، هو ضمان "الجنّة" في الآخرة!

ومن هذا المُعتقَد، طغت مَلَكَة التفكير الغيبي على دماغ المواطن "الطائفي" في لبنان.
ومن هذا المنطلق، نجد أن سلوك البعض في لبنان -نتيجة لتبعيّتهم الطائفيّة- يحرّكه انتماؤهم للطائفة، وبالتالي يشكّل أي تهديد أو خطر يرونه على طائفتهم، بمثابة إنذار لتحريك ردود أفعالهم، العنفية غالبًا، حتّى ولو تغلّفت هذه الردّود المتلفزة بمصطلح "اعتراضنا سلمي"! ليُختم بإطلاق نار يكشف أسلحة مُخبّأة عند جميع الأطراف. وفي تلك اللحظة الطائفية، مرّ على مخيّلتي، مشهد بوسطة عين الرمّانة. فقد كنت في الرابعة من عمري في بداية الحرب الأهليّة (1975)، وقد أخبرتني أُمّي أنّ المقاتل اليميني من الجهة التي كنّا نقطنها، صرخ من وراء المتراس للمقاتلين اليساريين (مع أنّ عنوان الحرب كانت إسلام ومسيحيّة): "وقّفوا قواص لتمرق هالعيلة من عندكن هودي!". فهلّ الهويّة والانتماء مَلَكة موجود بالفطرة، وما دمّرها سوى عُنفٌ مُفتعل؟ هذا إذا ما سلّمت بما يقول الفيلسوف الفرنسي جان ماري مولر في كتابه "نزع سلاح الآلهة" :.. طبيعة البشر خيّرة. وبمحاولة "لبننة" الفلسفة اللاعنفية التي درّسني أياها "مولر"، هل فعلاً طبيعة البشر خيّرة؟ وهل حبّهم للخير دفعهم لإقتناء أسلحة خوفًا من اللبناني الآخر المُحبّ للخير أيضًا؟

وأزعجتني في موضوع "كوع الكحّالة" أمور عديدة:
أوّلاً: ما أكّدته بعض وسائل الإعلام بأنّ الشاحنة محمّلة بالذخائر.
وثانيًا: كيف سرَت إشاعات (على متن وسائل التواصل) على الأرجح بأنّ الشاحنة محمّلة دولارات!
وثالثًا: وهذا مؤكّد عَرِفه من تابع كلّ الأخبار، بأنّ الغموض ما زال يلتفّ حول محتوى الشاحنة، والجيش بتعليمات من سلطة غائبة عن قضايا أساسيّة، حَرِصَ على تأمين السرّية حول المحتوى، خوفًا من إيقاظ الفتنة النائمة في عيون سكّان المنطقة الذين أرعبهم وقوع شاحنة تسرّب إليهم بأن ذحيرة وأسلحة هي حمولتها!

وقد فتحت الفتنة عينًا واحدة للحظة لتُنتج ضحيّتين، من جهتي أطلق على الإثنين صفة الضحايا. مع التحقّظ على الإختلاف الطائفي الذي يُعطي الضحيّة صفةً شهيد أو قتيل، وذلك بحسب الأيديولوجيا التي تتبعها "قناة التلفزيون".

ولا يصلُح في عصر الذكاء الصناعي، أن يؤدّي انقلاب شاحنة نعلم تمامًا أن أصحابها مرّروا وما زالوا يمررّون "شاحناتٍ" طائفيّة بأشكال مختلفة، تُزهق هويّة لبنانيّة. وقد عرضت الصحافيّة زينب شميس في موقع "درج" الواقع المرير في الضاحية الجنوبيّة، ممّا يؤكّد مُضيّ حزب الله في بناء هويّة مغايرة ومختلفة، لكنّها بحسب مفهوم المواطنة وطبقًا للقانون والدستور، فالمواطن له الحقّ في المشاركة في حكم بلاده! والفرق لغويّ بين الحكم والتحكّم، فإضافة التاء أنتجت في السياسة اللبنانية مُصطلحات لا نجدها حتّى في أسوأ نماذج حكم في العالم: - الثلث المُعطّل / -الديمقراطيّة التوافقيّة/ - الممانعة/ المعارضة/ الوزير المَلك/ رئيس توافقي.  تجري هذه المهزلة بالساحة اللبنانيّة.. وغيرها من المصطلحات التي لا تُفضي إلّا إلى التملّك.

ومن يركّز اهتمامه بالتملّك فلا تعنيه "الكينونة"، فقد قالها أريك فروم في كتابه الشهير: نتملّك أو نكون (to have or to be). وبرأيي فإنّ أفضل من رأى لبنان كان الفنان زياد الرحباني، فمنذ أكثر من أربعين عامًا، كان "إدوار" المسيحي في مسرحيّة "فيلم أميركي طويل" يقول دائمًا: "المسيحيّة خايفين يا خيّي".. وقد أشهر أحد سكّان منطقة الكحّالة "المسيحيين" سلاحًا وأطلق النار من خوفه ورعبه من الشاحنة الغريبة عن المنطقة، وقد تباهوا من خلال قناة تلفزيونية قريبة من المنطقة، بأن تاريخهم مليء بمقاومتهم.. ضدّ الغريب، والغريب أنّ لكلّ مواطن غريب، وهذا الغريب هو مختلف تمامًا عن غريب آخر. المواطنة لا التي تجتمع على أمور كثيرة يلتقي حولها "المواطنون"، ومن المفترض أن نلتقي على غريب واحد، لا غرباء. وكي لا يتساءل القارئ، بالنسبة لي طردت الخوف من داخلي، ولا أجد غريبًا عنّي إلّا الغياب أو الموت.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب