الإثنين 2023/07/17

آخر تحديث: 11:45 (بيروت)

التهافت المجنون على تامر حسني... الحاجة والرغبة

الإثنين 2023/07/17
التهافت المجنون على تامر حسني... الحاجة والرغبة
حفلة تامر حسني في بيروت
increase حجم الخط decrease
قرأتُ في أحد المراجع عن التعامل مع الضغط النفسي، بأنّ الحاجات أشياءٌ، نتطلّبها. ويجب الحصول عليها، للبقاء على قيد الحياة حتمًا. فنشعر براحة جسدية ونفسية بعد ذلك. 


وتُظهر الحاجاتُ نفسَها عن طريق الإحساس بالتوتر وعدم الاستقرار. فظهورها هو شيء خارج عن سيطرتنا وإرادتنا. إن الحاجات الأساسية هي حيوية وحادة. عند تلبيتها يختفي الشعور بالتوتر ومن ثمّ نشعر بالإشباع. وبحسب العالِم ابراهام ماسلو، فإنّ تصنيف الحاجات يراها بالترتيب التالي الحاجة للأمان الجسدي/ الحاجة للحب/ الحاجة للاعتراف/ الحاجة إلى المعنى/ الحاجة لتحقيق الذات.

وما جعلني أتذكّر هذا الموضوع، الخبرُ الذي قرأته عن "التهافت المجنون" من الجمهور الذي استقبل المطرب المصري تامر حسني! تدافعوا بجنون لرؤية مطرب يحسبونه رمزًا من رموز الفنّ! وعودةً على بداية الحديث (عن الحاجات تقابلها الرغبات) والمرجع نفسه يقول:

"الرغبات هي دوافع داخلية تقودنا باتجاه شيء ما أو شخص ما في بيئتنا الخارجية والذي يشكّل لنا رمزاً للمتعة. وفي حال سهولة الوصول لرغباتنا، نتطلّع حُكمًا لتحقيقها، من دون الانتباه إلى نقص نعانيه جرّاء عدم تلبية الحاجات الأساسيّة. وإذا ما تركّز كل جهدنا لتحقيق الرغبات، فمن الطبيعي أنّنا قد نهمل حاجاتنا الأساسية. فهذا يتطلب توازنًا وإتّزانًا نفسيًّا غائباً تقريبًا عن الكثير من الناس. والمشكلة الأخطر في قضيّة التوازن بين الحاجات والرغبات، تكمن في جهل هؤلاء الناس مبدأ الأبعاد الأربعة التي تدخل في نطاق التواصل السليم".

والتواصل السليم (أو كما يُدعى عند التربويين: تواصل لاعنفي) مبنيٌّ على أسسٍ مراعيةٍ للتوازن المنشود بين الحاجات والرغبات. وتتكامل الأبعاد الأربعة في ما بينها، وهي:
1-أستقبِل / 2- أُعطي/ 3- أَطلب/ 4- أَرفض.

فحين أستقبل، أكون مستندًا على إتّزاني النفسي، بمعنى: أن أستقبل الآخر على حقيقتهمن دون الحُكُم المُسبق. أن أتمتع بحُسنِ وفنّ الإصغاء بلا مقاطعة، ومن دون أخذِ موقفٍ (مع أو ضدّ) في الموضوع الذي أستمع إليه، وأن أرى الأحداث من زاوية المتحدّث، لا من زاوية المستمع. وأن أعطي، يعني أن أستطيع وأتمكن من الكلام عن نفسي، عن حاجاتي ومشاعري، عن أفكاري وقراراتي، وأن أستعمل الضمير "أنا"، وليس "أنت" لأنّها غالبًا ما تكون اتهاميّة.

والخطوة الثالثة، في المسار التواصلي السليم: "أطلب"، وأطلب ما أحتاجه، وأترك للآخر مسؤولية وحرّية قبول أو رفض طلبي. عندما يرفض طلبي عليّ أن أتفهّم بأن طلبي قد رُفض والأمر ليس "شخصياً". وأحياناً تكون طريقة الطلب مستترة بحيث نترك للآخر التكهن بما نريد منه، مما يؤدي بعض الأحيان، إلى إحباطات على مستوى الطالب. والخطوة الرابعة: أرفض، أن أقول بوضوح "لا" بوجه طلب الآخر، أن أضع حدوداً. أن أرفض بمعنى أن أستطيع شرح الأسباب التي دفعتني إلى رفض الطلب، مع شكر الآخر على أنّه فكّر بإمكانيّتي وقدرتي على تلبية ما حاول أن يطلب. الرفض هو الوسيلة الوحيدة لاحترام ذاتنا وقيمنا وخياراتنا. بمعنى أن نكون صادقين تجاه الذات والآخر.

وما دفعني لتناول هذا الموضوع، ومن وجهة نظر تربويّة، هو استغرابي  لسلوكٍ غير سوي. 

والمشكلة برأيي لا علاقة لها بالفنّ او الذائقة العامّة. فقد بدأت حديثي عن الخلل الناجم عن قلّة الوعي لدى البعض في تمييز حاجاته عن رغباته. وهذا مرتبط برأيي، بأثر سلبي من التطوّر التكنولوجي على مسار تكوين الثقافة الشعبية، فاختلفت معايير المصداقيّة لوسائل الإعلام. حيث أصبحت الناس تحصر حاجتها "للمعرفة"، بمتابعة مصدر واحد وَرِثَوه عن أهلهم! ليشعروا  بأنّ التلفاز، هو "مرجع مُقدّس". وبالتالي، أصبح المواطن العادي، يصدّق كلّ معلومة أو خبر يصدر، من أي شخصٍ تستضيفه إحدى القنوات (التابعة لحزب سياسي معيّن). وكلمة "مرجع"، لها علاقة وثيقة بالمذاهب الدينيّة، فلا يجوز عند عامّة الناس، أن تكون ملتزمًا (دينيًّا) من دون أن "تُقلّد" مرجعًا دينيًّا. وما أناقشه، من ناحية تربويّة، هو أن عمليّة التقليد في المسار الديني، هو تقليد أعمى، يمنع عملية التفكير والنقد. ومن الطبيعي أن عمل الدماغ هو أساس لبناء الهويّة.

فكيف للمرء أن يمتلك القدرة على التمييز بين حاجاته ورغباته، أن يصدّق وسائل الإعلام المرئيّة -بطريقة عمياء- تلغي هويّته الفردية، وتجعل منه تابعًا، يلتحق بركب الجماعة. وقلّةٌ من الناس (كالمرحوم أبي مثلاً) كان يبحث عن مصدر معرفته بنفسه، يختار هو الجريدة بشكلٍ أساسي، ولكي يحيط بالمعرفة من جميع الزوايا، كان (لفقره) يستأجر من صديقه (بائع الصحف) جميع الصحف اللبنانيّة بمبلغ زهيد، ليقرأ وجهة نظر جميع الأطراف، ثمّ يعيدها! وكان يتابع الأخبار في جولة على القنوات المتلفزة، ووسائل الإعلام المسموعة. والعائق الأكبر في صنع الهويّة الثقافيّة، "التبعيّة" لـ"نحن"، والتي تعتمد على التفكير الغيبي. فالـ "نحن" تستمدّ شرعيّتها ممّا هو سائد، دون التشديد على مصداقيّة هذا المصدر! 

تشكيل الهويّة الجماعيّة هنا يشبه الإشاعة: من إلى إلى... 

وكما تسري النار في الهشيم، يتشكّل وعي الفرد من خلاصة الوعي الجمعي. وفي الحديث عن تشكيل الهويّة (الثقافيّة تحديدًا) ترتكز بحسب علم الدماغ على ثلاثة مصادر: الحواس/ اللغة/ القيم والمعتقدات. وهذه المصادر ليست نهائيّة، فهي تتعرّض لشوائب. فالحواس لها عتبات ومعرّضة للخداع. أمّا اللغة، فمعرّضة للحذف والتشويه والتعميم. وللمعتقدات والقيم سلّم مختلف لدى الأشخاص، كما أنّ المعتقدات معرّضة للخطأ.

وهذه المصادر على الرغم من علميّتها، فأثّرها قد يكون سلبيًا فير رسم معالم هذا الجزء من الهويّة للجماعة. وأستند برأيي، على مشهد "السمّيعة" لأم كلثوم في مصر، "يسلطنون" على كراسيهم في المقهى، وهم منصتون إلى "الراديو" المركون على الرفّ في إحدى زوايا المقهى. كان إيمانهم بفنّ أم كلثوم غير قابل للنقاش. لم يكن هاجس الشباب حينها، حضور حفلة لأم كلثوم والتهافت لرؤيتها، أو الإغماء عند قدميها. فلا تركيز على رغبات ثانوية، كان الفنّ يلبّي حاجات معرفيّة. فتحوّل الثقافة من السمعيّة إلى البصريّة، أثّر مباشرة في تركيبة الهويّة الثقافيّة، كما طرأ تغيير "تكنولوجي" على معايير الجودة الفنّية تحديدًا. وأبعد من ذلك، فالتحوّل مرتبط بمفهوم السرعة. حيث أن الناس لا يعنيهم من مسألة خلق الكون (من وكيف ولماذا)، لا يهمّهم سوى مقولة أن الله "خلق الدنيا بسبعة أيام". وأثر هذا المعيار (السرعة) يُفضي إلى استنتاج جديد، بأنّ أهمّية أي اختراع، يرتبط بسرعة إنجازه لا بنوعيّة ما يُنتج! وحين كنت طالبًا في معهد الفنون، أذكر ردّ فعل الأصدقاء حين أُريهم رسومي: "قدّيه أخدت وقت معك؟" وكنت أبلع ريقي، قائلاً: لا أعرف!

والمعيار الكمّي الذي يسيطر على التفكير، يستسيغه الناس، فقط لأنّه لا يُتعب العقل. فبعمل الدماغ، هناك وظيفة لكلّ جانب، ونسبة للطبيب الفرنسي بول بروكا والطبيب النفسي الألماني كارل فيرنيكه، يحتوي النصف الأيسر على ما يعرف بمنطقتي بروكا وفيرنيكه Broka and Wernicke’s area. بشكل عام، يعتبر نصف الدماغ الأيسر مسؤولاً عن القدرات التحليلية وعملية التفكير، إذ يمكننا من القيام بالاستنتاجات وحل المشكلات المعقدة والتفكير المنطقي واستيعاب المعلومات النظرية.

وبعد الإطّلاع على المصادر العلميّة، أسأل أخيرًا: هل يعقُل أن غالبيّة الناس، لا تستخدم النصف الأيسر من الدماغ؟ وهذا يعني بأنّ الشعب اللبناني "يمينيّ" الدماغ! فلماذا لا ينتخب البرلمان رئيسًا للجمهوريّة؟ ولماذا لا نتحكّم بـ"يويو" الدولار؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب