الخميس 2023/03/02

آخر تحديث: 14:06 (بيروت)

أحمد سالم.. البوهيمي الذي أسس "ستوديو مصر" وتزوج أسمهان

الخميس 2023/03/02
increase حجم الخط decrease
في تاريخ نجوم التمثيل في مصر، أسماء لا يمكن النظر إليها فقط وفق عدد الأفلام التي شاركوا فيها، وإنما أيضاً بقيمة الأثر الذي تركوه أو الجدل الذي ثار حولهم، سواء في حياتهم أو حتى بعد رحيلهم. من بين هؤلاء، الممثل والمنتج والمخرج أحمد سالم، الذي رحل عن الدنيا في 10 أيلول 1949 قبل أن يكمل عامه الأربعين، ورغم سنوات عمره القليلة فقد حقق الكثير من الإنجازات وحفلت حياته بالعديد من التقلبات التي جعلت منه ليس مجرد اسم في تاريخ الفن العربي. فالرجل المولود في مدينة أبو كبير بمحافظة الشرقية في 20 شباط 1910 لأسرة عريقة في مجال السياسة، تحدّى تقاليد أسرته، وقرر في لحظة مهمة من حياته احتراف الفن على غير رغبة والده علي بك سالم، أحد رجال التعليم، وعمه النجدي باشا سالم، عضو مجلس الشيوخ المصري العام 1924، وعمه عبد العزيز سالم الذي أصبح لاحقاً وزيراً للزراعة في عهد ثورة يوليو 1952، رغم أنه كان درس الهندسة في جامعة كامبريدج بعد حصوله على المركز الأول على مصر في البكالوريا من مدرسة الجيزة الثانوية العام 1926.

وإذا كان أحمد سالم قد ذهب إلى بريطانيا لدراسة الهندسة، فإنه لم يكتف بذلك بل درس الطيران أيضاً، والأكثر دهشة أنه قاد طائرته بنفسه عائدا بها إلى القاهرة، لكن وضع الطيران في مصر في ذلك الوقت لم يرض طموحه فقرر التوجه للحياة المدنية والعمل بدراسته الأصلية، فقبل اختيار عبود باشا أحد رجال الاقتصاد المعروفين له للعمل في شركاته، وبعد عام ونصف العام انتقل للعمل كمساعد لمدير القسم العربي في الإذاعة المصرية عند إنشائها العام 1934 ثم مديراً للقسم العربي فيها، فكان أول صوت إذاعي نطق بالعبارة الشهيرة "هنا القاهرة" عند افتتاح الإذاعة المصرية في 31 أيار 1934. وبعد عام من عمله في الإذاعة، وأثناء تقديمه إحدى حفلات بنك مصر، طلب منه طلعت حرب، صاحب البنك، تولي إدارة شركة مصر للتمثيل والسينما والإشراف على إنشاء "ستوديو مصر"، أهم صرح سينمائي عرفته مصر حتى الآن بعدما كان المتمصّر "ليتو باروخ" قد اختار قطعة الأرض الكائنة حتى يومنا هذا في شارع الهرم في منطقة الجيزة. فأنجز سالم المهمة على أكمل وجه، مستعيناً بمجموعة من الخبراء الأجانب وأوائل المصريين الذين درسوا السينما في أوروبا، فكان أيضاً أول مدير لاستوديو مصر الذي كان باكورة إنتاجه فيلم "وداد"، وعرض في شباط 1936، من بطولة أم كلثوم وإخراج الألماني فريتز كرامب.

كما أشرف أحمد سالم، خلال إدارته للاستوديو، على إنتاج مجموعة مهمة من أفلام هذه الفترة، أشهرها: شيء من لا شيء، الحل الأخير، سلامة في خير، وجميعها كانت العام 1937، ثم فيلم "لاشين" من إخراج فريتز كرامب في العام التالي، وهو أول فيلم سياسي في تاريخ السينما المصرية، وبسببه تعرض الاستوديو لأزمة كبرى حين اعترض القصر الملكي على الفيلم واعتبره فيلماً ثورياً يحرض على الخروج على ملك مصر، وطالب بضرورة تغيير نهايته قبل الموافقة على عرضه، وهو الأمر الذى رفضه أحمد سالم وقرر على أثره ترك العمل في الاستوديو وجميع شركات بنك مصر.

ومنذ تلك اللحظة، قرر أحمد سالم الاتجاه إلى التمثيل والإخراج والنزول بنفسه إلى سوق الإنتاج أيضاً، فأسس شركة "أفلام نفرتيتي" ومقرها وسط القاهرة الخديوية، واستأجر من الممثل يوسف وهبي الاستوديو الخاص به في منطقة الجيزة، وقدم فيلمه الأول "أجنحة الصحراء" العام 1939، وشاركته البطولة فيه راقية إبراهيم مع أنور وجدي وآخرين، ولم يبتعد سالم في فيلمه الأول عن عشقه القديم لعالم الطيران حيث دارت قصته عن أحد أبطال الطيران الذي يواجه كثيراً من المصاعب والمصادفات القدرية، ولم يقدم أحمد سالم بعد هذا الفيلم سوى ثمانية أفلام أخرى، بعضها لم يكن من إخراجه مثل فيلم "المنتقم" من إخراج صلاح أبو سيف العام 1947، غير أنّ أشهر أفلامه على الإطلاق كانت من إنتاجه وإخراجه أمام الممثلة والمطربة ليلى مراد وهو "الماضي المجهول" العام 1946 الذي دخل بسببه في خصومة مع أنور وجدي بسبب غيرة الأخير على زوجته ليلى مراد، وكذلك فيلمه الأخير "دموع الفرح" الذي رحل قبل استكمال تصويره وأنجز المهمة مساعده المخرج - بعد ذلك - فطين عبد الوهاب. وإذا كان الرجل قد أظهر قدرات إخراجية طيبة في فيلم مثل "الماضى المجهول"، فإنه لم يقدم أداء تمثيلياً مقنعاً، خصوصاً في الأفلام التي تولى إدارتها بنفسه، بعكس فيلمه مع المخرج صلاح أبو سيف، أو فيلمه الآخر "دنيا" الذي أخرجه له محمد كريم في العام 1946 بمشاركة راقية إبراهيم.

ويبدو أن دخوله في كثير من المغامرات قد نال من تركيزه في عمله بالفن، خصوصاً أنه قضى بعضاً من الوقت في السجن بعد اتهامه بتوريد خوذات مقلّدة إلى جيوش الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وحكم عليه بالإعدام قبل أن يتم تخفيفه إلى السجن، وقيل يومها أنها قضية ملفقة من جانب الملك فاروق ملك مصر على خلفية تنافسهما في مجال العلاقات النسائية. وما زاد من هذا الاعتقاد أنه حصل على البراءة بعد ذلك، وخرج ليستأنف حياته الفنية العام 1946. وعلى ذِكر الملك فاروق، فإن مغامرة أحمد سالم الأشهر مع الملك، كانت بطلتها الممثلة كاميليا التي اكتشفها سالم وسعى إلى تقديمها في فيلم من إنتاجه، لكن فاروق نازله عليها ووضع العراقيل في طريقه حتى انتزعها منه وأصبحت كاميليا أشهر محظياته. ولم تكن هذه هي مغامرته النسائية الوحيدة، فقد تزوج من المطربة أسمهان أثناء إحدى رحلاته إلى فلسطين بصحبة زوجته الأخرى الراقصة تحية كاريوكا، وهناك التقى بأسمهان التي كانت ممنوعة من دخول مصر، وتزوجها وعاد بها إلى القاهرة باعتبارها زوجته، وبعد أيام دبت الخلافات بينهما على خلفية علاقة المطربة الشهيرة برئيس الديوان الملكي أحمد حسنين، وفي إحدى هذه المرات أخرج أحمد سالم مسدسه مهدداً أسمهان في محاولة منه لمنعها من الخروج من المنزل، ما استدعى طلب الشرطة على حد وصف المطرب فريد الأطرش-شقيق أسمهان، الذي أورد تفاصيل ما جرى في مذكراته المنشورة تحت عنوان "لحن الخلود" من إعداد الصحافي فوميل لبيب. في تلك الليلة، وقع احتكاك بين أحمد سالم وبين ضابط الشرطة، خرجت بسببه رصاصة طائشة لتستقر في صدره، وتم إنقاذ حياته بأعجوبة بعد أيام قضاها في المستشفي قبل مصرع زوجته أسمهان في تموز 1944، وقيل إن هذه الرصاصة الطائشة كانت السبب في رحيله بعد سنوات على أثر إجرائه لجراحة فاشلة أودت بحياته.


("الماضي المجهول" - أحمد سالم وليلى مراد)

ولم يتزوج سالم من أسمهان وتحية كاريوكا فقط، وإنما كانت له ثلاث زيجات أخرى، أولها من السيدة خيرية البكري إحدى سيدات المجتمع الراقي في ثلاثينيات القرن الماضي، وهي أم ابنته الوحيدة نهاد التي رحلت عن الدنيا قبل سنوات قليلة، ثم من أمينة البارودي التي عملت لبعض الوقت لصالح المخابرات البريطانية ولقبتها ملفاتها بـ"الأرنبة السوداء"، وهي التي كانت مسؤولة عن تجنيد زوجته الأخرى أسمهان للعمل لصالح هذه المخابرات أثناء الحرب العالمية الثانية. أما آخر زيجاته، فكانت من الممثلة مديحة يسري التي شهدت واقعة وفاته في أيلول 1949. وقد عاش أحمد سالم حياة بوهيمية متقلّبة جلبت عليه كثيراً من المشاكل والمواقف الصعبة، ولو كان أعطى حياته للفن ربما كان قد حقق مكانة أكبر ومساحة أكثر اتساعاً في ذاكرة المشاهدين، لكنه يبقى رغم ذلك إسماً مهماً في تاريخ الفن المصري بفضل ريادته وإسهاماته في كثير من المجالات التى عمل بها. وقد لخص الرائد المسرحي، زكي طليمات، حياة أحمد سالم، حين قال عنه في كتابه "ذكريات ووجوه":

"مِن الناس مَن يرى أحمد سالم شيطاناً غافل أحد الملائكة فسرق ثيابه، ومنهم من يراه ملاكاً أغواه شيطان، لكن الذي لا شك فيه أنه جمع بين الاثنين، وأنه بهذا وذاك ذو شخصية ملفتة، شخصية كل إنسان يعمل في معترك الحياة وخلفه رصيد غني مما تمنحه الطبيعة، ثم يعمل في جرأة لا تعرف التوقّف، إنه أشبه بكرة تقاذفتها أرجل الحظ وهو مخمور يترنح، فتارة يدفعها إلى العلا، وأخرى يهوي بها إلى الوحل".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها