الثلاثاء 2023/11/28

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

نكبة فلسطين في فيلم مجهول لا يتذكّره مخرجه

الثلاثاء 2023/11/28
increase حجم الخط decrease
يحفل تاريخ الفن العربي بصفحات لم تلق نصيبها من الضوء، رغم أهميتها، خصوصاً إذا ما وضعناها في سياقها الزمني، وإذا ما فرضت الأحداث تداعيها في الذاكرة، لتبدو أمامنا حية ندية لا غبار عليها، ومنها مثلاً فيلم سينمائي من إنتاج العام 1949 لم يلتفت إليه أحد طوال عقود، إلى أن تذكرته وسائل إعلام مع نشوب حرب غزة. الفيلم اسمه "نادية" من إنتاج وبطولة عزيزة أمير، صاحبة أول فيلم روائي طويل، وهو فيلم "ليلى" الصامت سنة 1927، وشاركها في بطولة الفيلم كل من زوجها محمود ذو الفقار، وشادية وشكري سرحان ومحمود شكوكو، وسليمان نجيب، وأخرجه فطين عبد الوهاب...



تدور أحداث "نادية" في أجواء حرب فلسطين سنة 1948 ودخول الجيوش العربية المعركة ضد العصابات الصهيونية، حيث يستشهد الضابط المصري منير (شكري سرحان) في المعارك هناك، فتقرر شقيقته نادية أن تهب حياتها لنصرة القضية الفلسطينية، وتتطوع للعمل على جبهة القتال لخدمة العسكريين المصريين والعرب، فتتعرف على الضابط مدحت (محمود ذو الفقار) صديق شقيقها الشهيد. ومع غياب نادية ومدحت، يقرر شوكت أفندي (سليمان نجيب) وحسن (محمود شكوكو) الذهاب إلى فلسطين للبحث عنهما والانضمام إلى المقاومة. ووسط موجات من الكر والفر، تقع بعض الاحداث الميلودرامية التي تجعله فيلماً شديد القتامة، رغم محاولات كل من سليمان نجيب وشكوكو إضفاء جو من المرح على جانب من أجواء الفيلم، وفيه يغني شكوكو من ألحانه وكلمات الشاعر محمود بيرم التونسي لمجموعة من اللاجئين الفلسطينيين  منولوغ عنوانه "شدة وتزول" يقول مطلعه: "شدة وتزول يا صحابي، شدة وتزول يا أحبابي، إخوة مهاجرين يعوضهم، عوض الصابرين، ويجعلهم هم الفايزين، ولا يجعل ها الشدة تطول يا احبابي، شدة وتزول يا صحابي شدة وتزول".

وعُرض "نادية" في 7 شباط 1949، وهو الثاني الذي قدمه الثنائي عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار للقضية الفلسطينية بعد فيلمهما الأول "فتاة من فلسطين" الذي قامت ببطولته المطربة سعاد محمد وعُرض في الأول من تشرين الثاني 1948 بعد اسابيع من وقوع النكبة. اللافت أنّ الفيلم، رغم أهميته في المحتوى والمستوى والسياق الزمني الذي قُدّم فيه، فإن كثيراً من عناصره لا يلتفتون إليه عند الحديث عن مسيراتهم الفنية. مثلاً، يعتبر "نادية"، الظهور السينمائي الأول للممثل شكري سرحان، ومع ذلك تحدث سرحان في كل لقاءاته عن أن فيلم "لهاليبو" الذي ظهر في العام التالي (1950) هو فيلمه السينمائي الأول. وعندما ذكّرته به ذات مرة، أقرّ لي بصحة المعلومة مع تحفظ بسيط بأنه كان دوراً صغيراً بعكس بطولته المطلقة في الفيلم الآخر.

أيضاً، من الأمور اللافتة في تاريخ المخرج فطين عبد الوهاب، أن معظم الذين درسوا سيرته يعتبرون فيلم "جوز الأربعة" المعروض في العام 1950 هو فيلمه الأول، فطين عبد الوهاب نفسه وفي أكثر من حوار صحافي وفي سنوات نشاطه وتركيزه، كان يتحدّث أو يقبَل بأن "جوز الأربعة" هو أول أفلامه.

في مجلة "آخر ساعة" بتاريخ 13/9/1961، وفي موضوع مطول يجمع بين الحوار والمعلومات، يذكر الصحافي أحمد ماهر وفي حضور فطين أو على لسانه أن "جوز الأربعة" هو أول أفلامه، وأنه كان باكورة إنتاج الشركة التي كونها فطين مع المخرج كمال الشيخ، ومدير التصوير أحمد خورشيد، عقب رحيل أستاذه المخرج والممثل أحمد سالم. وفي 25/4/1972، أي قبل رحيل فطين بأسبوعين تقريباً، كرر عزت الأمير في مجلة "الكواكب" حكاية شركة الإنتاج التي كوّنها فطين كي يخرج فيلمه الأول "جوز الأربعة" سنة 1950، وكان طبيعياً أن تنقل غالبية الموضوعات التي كتبت عنه بعد رحيله هذه المعلومة نقل الببغاوات، مع العلم بأن لفطين فيلماً آخر قبله بعام ونصف العام يحمل توقيعه كمخرج هو "نادية" الذي عُرض سنة 1949، فما تفسير ذلك؟

للوهلة الأولى يدرك مَن شاهد فيلم "نادية" أنه يبعد كثيراً عن سينما فطين عبد الوهاب التي عرفناها لاحقاً. فأحداثه ميلودرامية قاتمة، وتكاد مَشاهدُه تقطر حزناً على فلسطين والجنود المصريين في جبهة القتال وتأثير ذلك في الشخصية الرئيسة في الفيلم (عزيزة أمير). ولولا بعض المواقف لشكوكو وسليمان نجيب، لأصبحنا أمام فيلم مقبض وغريب تماماً عن عالم فطين عبد الوهاب الذي عرفناه في فيلم "جوز الأربعة".

فهل قدم فطين في "نادية" تنازلات الفيلم الأول وتغاضى عن عالمه ومفرداته السينمائية من أجل أن يصبح مخرجاً ويلحق بزميليه كامل التلمساني وصلاح أبو سيف اللذين سبقاه إلى الإخراج، ثم عاد بعدما حقق ذاته، وتبرأ من فيلمه الأول وأسقطه من لائحة أفلامه؟

هناك رواية محبوكة لا تستند إلى أي مصدر، سوى صاحبها، ربما تزيل -إن صحّت- بعض اللبس حول هذا الفيلم. وصاحبها هو الصحافي عبد النور خليل، الذي كتب في صحيفة "الأنباء" الكويتية في تشري الثاني/نوفمبر 1989 عن فطين عبد الوهاب، أن فيلم "نادية" الذي أنتجته وقامت ببطولته عزيزة أمير، كان من المفترض أن يخرجه زوجها محمود ذو الفقار الذي شاركها البطولة أيضاً، لكن ذو الفقار، المنشغل دائماً بالوقوف أمام الكاميرا كممثل، ترك لمساعده فطين إدارة معظم مراحل الفيلم، حتى بدا أن فطين هو المخرج الفعلي للفيلم، فقررت عزيزة أمير بالاتفاق مع محمود ذو الفقار مكافأة فطين ومفاجأته بوضع اسمه كمخرج على شارة الفيلم.

ورغم وجاهة هذه الرواية، إلا أني لم أعثر لها على أثر أو ظل في ملفات المعلومات الخاصة بكل من عزيزة أمير ومحمود ذو الفقار، أو حتى فطين عبد الوهاب نفسه، لا سيما أن لعبد النور خليل في هذا السياق رواية أخرى تفتقر إلى الوجاهة والمنطق هذه المرة، ومفادها أن فطين عبد الوهاب المتيّم في صمت بحب ليلى مراد منذ ساعد أحمد سالم في إخراج فيلم "الماضي المجهول" سنة 1946، كان يداوم على زيارة "ستوديو مصر" أثناء تصوير فيلم "غزل البنات" من أجل رؤية بطلة الفيلم، وأن نجيب الريحاني الواقف أمامها في بطولة "غزل البنات" استدعاه ذات يوم قبل وفاته بقليل إلى غرفته ليحدثه عن إعجابه بحسه الكوميدي، وأنه يتوق إلى أن يعمل مساعداً في أفلامه المقبلة، ثم قابله مرة أخرى في مسرح الريحاني واتفقا على المسرحيات التي يمكن تحويلها إلى أفلام من تراثه المسرحي، وعقدا اتفاقاً بألا يتدخل الريحاني في الأمور الفنية المتعلّقة بالصورة، في مقابل أن يترك فطين له ولبديع خيري كل ما يتعلق بالقصة والحوار، وأن فطين وافق تماماً على ذلك لكن القدر لم يمهل الريحاني لينفذ ما اتفق عليه، فرحل فجأة فى حزيران 1949 مفوتاً على فطين فرصة حقيقية ربما كانت لتغيّر مساره الفني برمته.

ولا أتصور أن هذه الرواية تقف على قدمين، أولاً لأن كرامة فطين تأبى عليه أن يلاحق امرأة – حتى لو كان ذلك في صمت – والكل يعلم أنها زوجة زميل له يغار عليها من الهواء هو أنور وجدي. ثم ما الذي ذكّر فطين بليلى مراد منذ العام 1946 وفيلم "الماضي المجهول" حتى يلاحقها في صمت في "غزل البنات" العام 1949؟ أم أنه كان يداوم على بلاتوهات الأفلام التي قامت ببطولتها خلال هذه السنوات الثلاث؟ ثانياً، من المعروف أنّ الريحاني بدأ تصوير "غزل البنات" في آذار 1949، بدليل الكلمة التي كتبها بخط يده في سجلات ستوديو مصر أثناء التصوير، ثم توفي في حزيران من العام نفسه، اي قبل ثلاثة أشهر من عرض الفيلم في أيلول. وهذا معناه أن كل مراحل فيلم "غزل البنات" تمّت بعدما أصبح فطين مخرجاً بالفعل من خلال فيلم "نادية" المعروض في شباط 1949.

فهل يمكن أن يعرض الريحاني على فطين أن يعمل مساعداً في أفلامه بعدما أصبح مخرجا فعلياً؟ وهل من المنطق أن يختار الريحاني، مهما كان قدره ونجوميته، مساعدي الإخراج لمخرجين لم يتحددوا من الأساس؟ وهل من اللائق أن يعقد الريحاني اتفاقاً لتوزيع الاختصاصات مع المساعد وليس مع المخرج؟ وحتى بفرض أن الريحاني كان يريده مخرجاً لأفلامه وليس مساعداً، من أين تعرف على الحس السينمائي الكوميدي لفطين عبد الوهاب، رغم أن الأخير لم يظهر له إلا فيلم واحد بإسمه وكان شديد الميلودرامية والقتامة؟!

لقد ظهر فيلم "نادية" وهو يحمل توقيع مخرجه فطين عبد الوهاب، ومن بين أبطاله شكري سرحان، وهي الحقيقة التي لا تحمل المجادلة ولا تحتاج إلى إثبات، تماماً مثلما أنه الفيلم الثاني في تاريخ السينما العربية الذي تناول أحداث النكبة في فلسطين العام 1948.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها