السبت 2023/01/21

آخر تحديث: 14:41 (بيروت)

فاتن حمامة.. هكذا هربت من قبضة الرجل الحديدي

السبت 2023/01/21
increase حجم الخط decrease
ليست هذه المرة الأولى التي يثار فيها الحديث عن أزمة فاتن حمامة مع جهاز المخابرات المصرية في زمن جمال عبد الناصر، وقصة هروبها الكبير من قبضة صلاح نصر، الرجل الحديدي في مصر حتى هزيمة حزيران/يونيو1967. ومع ذلك يبقى هذا الملف الشائك مفتوحاً على جديد تفاصيله ومثير ملابساته، ففاتن حمامة التي رحلت عن عالمنا في 17 كانون الثاني/يناير2015، لم تكن محبة يوماً للسياسة ولا للحديث فيها.

صحيح أنها لم تنفصل عن الاهتمام بقضايا وطنها أو عن همومه، لكنها كانت دائماً حريصة على ألا تنزلق إلى دهاليز السياسة رغم أنها عاصرت ملوكاً ورؤساء متعاقبين، وعايشت ما يزيد على ثمانين عاماً كانت من أشد فترات التاريخ المصري حساسية واضطراباً. وصحيح أيضاً أنها شاركت في مشاريع "قطار الرحمة" وتسليح الجيش المصري و"أسبوع الشفاء" وتمريض الجنود أثناء وفي أعقاب حربي 1956 و1973، لكن ذلك كان بدوافع وطنية بحتة، بعيداً من الانتماءات والاستقطابات التي تعرفها دائماً لعبة السياسة. ورغم هذا، وجدت فاتن نفسها، ذات يوم من صيف 1965، منغمسة في قلب لعبة السياسة، وكان عليها أن تتخذ القرار الصعب، وتدفع ثمناً لهذا القرار خمس سنوات من الغربة بعيداً من مصر، إضافة إلى ملاحقات حاولت تشويه صورتها وصورة زوجها في ذلك الوقت الفنان عمر الشريف.

فجأة استيقظ عشاق فاتن حمامة وصنّاع السينما ذات صباح، في تموز/يوليو 1965، ليكتشفوا أن سيدة الشاشة قد غادرت مصر ليلاً من دون سابق تمهيد، وظن الجميع أنها مجرد رحلة لزيارة زوجها في ذلك الوقت، عمر الشريف، الذي كان يحقق نجاحاً طيباً في السينما العالمية، لكن غيبتها طالت وطال معها صمتها عن أسباب تلك الغيبة. وحتى حينما عادت، بعد خمس سنوات، كانت الإجابة لسائليها أن الرحلة كانت لأسباب عائلية: عمر بين أوروبا وأميركا، ونادية وطارق في مدارس لندن، وعملها بين بيروت وأكثر من عاصمة أوروبية، فآن لها أن تقيم في مصر؟! وبطبيعة الحال لم تكن تلك هي الحقيقة التي كتمتها فاتن ربّما حتى نهاية الثمانينيات، حين بدأت، بتحفظ شديد، تحكي عن الدوافع التي كانت وراء هجرتها المفاجئة العام 1965 والظروف التي صاحبت قرارها، واندرج ذلك تحت عنوان كبير هو سيطرة الخوف وغياب الحريات في مصر، وعنوان أكبر اسمه صلاح نصر رئيس مخابرات عبد الناصر.


(فاتن حمامة و"قطار الرحمة")

وتحكى فاتن تفاصيل ما حدث معها في أكثر من حوار، فتقول: "حينما قامت ثورة تموز/يوليو، كنت في بدايات العشرينيات من عمري (من مواليد 27 أيار/مايو1931)، وبحماس الشباب وبوازع من فطرة الوطنية آمنتُ بمبادئ الثورة وكنت محبة لقائديها نجيب ثم عبد الناصر، عبد الناصر تحديداً كان بالنسبة لي كالإله، واستمرت الحال كذلك حتى السنوات الأولى من الستينيات إلى أن لاحظت تغيراً في المناخ العام وتضييقاً في مجال الحريات، وبدأت أسمع عن زملاء يؤخذون في منتصف الليل ويختفون ويوضعون في السجون، وعن زملاء وزميلات يتم الضغط عليهم للعمل مع جهاز صلاح نصر، عايشت ظلماً كبيراً تعرض له كثيرون من حولي، وتعرضت للتضييق في حركتي وفي سفري للخارج وأشياء أخرى، إلى أن اتصل بي شقيق فنان كان يعمل بهيئة الاستعلامات (يبدو أنها تقصد مرسي سعد الدين- شقيق الموسيقار بليغ حمدي) وكنت قد انتهيت من تصوير فيلمي "الحرام" و"حكاية العمر كله" والمشاركة في مسابقة مهرجان "كان" السينمائي الدولي، وفي هذا الاتصال طلب الرجل تحديد مقابلة مع أحد رجال المخابرات لأمر مهم، ولم يكن أمامي سوى الترحيب بزيارته، وجاءني الرجل بالفعل وأخذ يحدثني عن أمور تخص أمن البلد والتضحيات التي لا بد أن نقوم بها جميعاً، وطلب مني أشياء محدّدة من بينها وضع ميكروفونات في شقتي لتسجيل محادثات كل من يزورني، وترك لي مجموعة من الكتب عن الجاسوسية طلب مني قراءتها للتعرف على طبيعة العمل المطلوب، وقال نحن نثق بك ونعرف أنك لن تتكلمي رغم أن لك أشقاء يتكلمون، ونحن نتركهم لأجل خاطرك، شعرتُ ليلتها بانقباض شديد، وحينما بدأت في قراءة هذه الكتب زاد انقباضي وخوفي من قذارة ما قرأت ومما ينتظرني في هذا الملف أياً كان موقفي من ذلك العرض، ولم أنم لمدة أسبوع، استشرت مجموعة من الأصدقاء أثق فيهم، من بينهم المخرج حلمي حليم، وشقيقه أسعد حليم، وكانا ضيفين دائمين في سجون عبد الناصر، فأجمعوا على أن هؤلاء لن يتركوني، وبعد أسبوع اتصل بي رجل المخابرات فأعتذرت له وأكدت له أنني إذا سمعت أي إساءة لمصر لن أتردد في إبلاغهم، وبعدها زادت المضايقات لي، لا سيما في ما يتعلق بالسفر للخارج، ونصحني أحد الأصدقاء (لم تشأ الإشارة إلى أنه الكاتب الصحافي علي أمين) بضرورة مغادرة مصر قبل أن تزيد الضغوط، بل وساعدني بالفعل على الخروج من مصر في وقت قياسي من طريق السيد زكريا محيي الدين الذي كانت تربطني بأسرته علاقة عائلية".

(سيدة الشاشة العربية)  

وما لم تقله فاتن حمامة، أنها بعد مغادرتها مصر والإفلات من قبضة صلاح نصر، تعرضت لحملة تشويه منظّمة وممنهجة شاركت فيها مجموعة من الصحافيين، سواء عن جهل أو عن معرفة، وأن هذه الحملة كانت سبباً في إقالة رئيس تحرير مجلة "الكواكب" من منصبه على يد الكاتب الصحافي، أحمد بهاء الدين رئيس مجلس إدارة "دار الهلال" في ذلك الوقت. وما حدث أن الناقد سعد الدين توفيق، رئيس تحرير "الكواكب" حينئذ، سمح في تموز/يوليو 1965، بنشر مجموعة من الرسوم الكاريكاتورية للرسام عبد السميع، يتهم فيها فاتن حمامة باللهاث وراء زوجها عمر الشريف في عواصم أوروبا لمنعه من الارتماء في أحضان الحسناوات أو لتقليده في الوصول إلى السينما العالمية. وساء أحمد بهاء الدين ما رآه في صفحات إحدى مجلات مؤسسته، وينال من فاتن حمامة التي كان يكنّ لها كل احترام ومودّة، فقرر على الفور إقالة سعد الدين توفيق وتعيين الناقد الشاب وقتها، رجاء النقاش، رئيساً لتحرير "الكواكب". وأمضت فاتن في أوروبا، خمس سنوات، لم تتوقف خلالها عن ممارسة نشاطها الفني، فقدمت أفلاماً بعيداً من مصر، من بينها "رمال من ذهب" في المغرب، و"الحب الكبير" في لبنان، لكن حنينها للعودة إلى مصر لم يكن يكبحه سوى إحساسها بالخوف من المصير الذي ينتظرها حتى بعد هزيمة 1967 والشعور بالمرارة الذي عاشته في الغربة والذي تحدثت عنه طويلاً.

وحدث أن قابلت فاتن، السيدة أم كلثوم في باريس، وطلبت منها الأخيرة العودة، وأنها تضمن لها حرية الحركة والخروج والدخول من وإلى مصر، فردت عليها فاتن بجملة واحدة "كتّر خيرك". وزادت النداءت من داخل مصر، بضرورة عودة سيدة الشاشة، من بينها نداء وجهه لها الكاتب يوسف إدريس عبر أثير الإذاعة المصرية، وآخر للأديب عبد الحميد جودة السحار الذي كان يرأس مؤسسة السينما، فكان ردها أنها تجد مشقّة في سفرها من وإلى مصر. فسعت كل من أم كلثوم والسحار لدى وزارة الداخلية العام 1968، وبعد اختفاء صلاح نصر، لاستصدار موافقة الوزارة على سفر فاتن من دون موافقة زوجها عمر الشريف. ومع ذلك لم يطمئن قلب فاتن حمامة ولم تعد إلى مصر إلا في العام 1970.

وهناك معلومة مستقرة عن أنها لم تعد إلى مصر إلا بعد وفاة عبد الناصر في أيلول/سبتمبر 1970، وهذا غير صحيح، فقد وصلت فاتن إلى القاهرة في شباط/فبراير 1970 في زيارة قصيرة لمدة عشرة أيام أظنّها كانت استكشافية لما يمكن أن تواجهه في حال عودتها إلى الوطن، وبمجرد أن اطمأنت أعادت ترتيب أمورها العائلية، لا سيما أن ولديها نادية وطارق كانا يدرسان في لندن، ونزلت أثناء هذه الزيارة الاستكشافية في فندق هيلتون تأكيداً للجميع بأن زيارتها مؤقتة، لكنها لم تعد للإقامة الدائمة والمستقرة في شقتها في عمارة ليبون في الزمالك، إلا بعد وفاة عبد الناصر، وتولي السادات رئاسة الجمهورية، وبعدما شاهدت بكاء إحدى المصريات التي قابلتها بالصدفة في لندن، فقامت باحتضانها في الشارع قائلة لها "وحشتينا يا فاتن.. ارجعي بقى"، عادت فاتن.

وهكذا، طوت سيدة الشاشة، واحدة من أسوأ فترات حياتها، عاشت خلالها خمس سنوات في غربة اختيارية ثمناً لحريتها، التي لم تكن على استعداد للتنازل عنها، ورفضاً للانغماس في لعبة السياسة القذرة احتراماً لنفسها ولتاريخها المضيء الذي ظلت تحافظ عليه حتى آخر يوم في حياتها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها