الجمعة 2022/12/02

آخر تحديث: 13:07 (بيروت)

فيروز كراوية مخطئة...مؤلف "بلادي" و"الخلاعة مذهبي" كان رقيباً فنياً!

الجمعة 2022/12/02
فيروز كراوية مخطئة...مؤلف "بلادي" و"الخلاعة مذهبي" كان رقيباً فنياً!
يونس القاضى فى سنواته الأخيرة
increase حجم الخط decrease
يدهشك أن تجد بحثاً، يحظى بقدر لا بأس به من اهتمام القراء والإعلام، في حين أنه يفتقر، في كثير من مناطقه، لأبسط القواعد المتفق عليها في أي بحث علمي. ويدهشك أكثر أن تنفي صاحبته معلومات، توافق عليها كثيرون، فتعتبرها "شائعة" من دون أن تقدّم دليلاً واحداً على ما تذهب إليه..

هذا ما حدث مع المطربة والباحثة فيروز كراوية التي كشفت مؤخراً عن جزء من كتاب تعده حالياً، وعنونت هذا الجزء بصياغة هي في حد ذاتها مليئة بالغموض والالتباس "عوالم أم مطربات؟ من طقاطيق الحرملك المكشوفة إلى تورية أغنيات الطرب". المقال فيه العديد مما يمكن التوقف أمامه والتعليق عليه، لكن ما يلفت الانتباه هو ما ذهبت إليه كراوية بشأن الشاعر والزجال والمؤلف المسرحي الشيخ محمد يونس القاضي، مؤلف النشيد الوطني المصري الحالي "بلادي بلادي"، وهو في الوقت ذاته مؤلف الكثير من الطقاطيق التي يشار إليها بالخلاعة والمجون على غرار "إرخي الستارة اللي في ريحنا" و"بعد العشا يحلى الهزار والفرفشة"، وهو لون من الغناء كانت له حظوظه الواضحة في عشرينيات القرن الماضي، حتى أنّ أمّ كلثوم نفسها أصابت وتراً من هذا اللون الغنائي بأغنيتها التي تعاكس مخزونها الرصين: "الخلاعة والدلاعة مذهبي".

تقول كراوية: "على عكس الشائعة المنتشرة، لم يتولَّ يونس القاضي منصب الرقيب على الأغنية ولا سعى عبر مقالاته إلى التقرُّب من دوائر السلطة، إذ كانت دائرة عمله وكسبه مرهونة بشركات الإنتاج والفرق المسرحية، ونهمه الفني والمادي المرتبط باستمرار اللون الذي يقدمه، كما يؤكد لاغرانج. والأدق أنه كان يدعو لفكرة الرقابة الذاتية للكاتب على أعماله، ولا يثق بفرض الرقابة من قبل الدولة التي يرى أثرها عكسيًا ومستفزًا. ظهرت تلك الشائعة على لسان الكاتبة نعمات أحمد فؤاد التي رجَّحت أن وزير الحكم المحلي في ذلك الوقت، محمد محمود باشا، كان وراء تأسيس قلم المطبوعات للرقابة على النصوص المنحرفة، نظرًا لأصوله الصعيدية التي كانت تنفر من ذلك النوع من الأغاني".


هكذا حسمت الباحثة موقفها من تولى الشيخ يونس القاضي منصب الرقيب على الأغنية بأنها شائعة من دون سند أو وثيقة، ونسبت الشائعة إلى الدكتورة نعمات أحمد فؤاد أيضاً من دون أن تذكر لنا أين قالت فؤاد هذه المعلومة، اللهم إلا أذا كانت قد اكتفت بأن مصدرها هو الباحث فريدريك لاغرانج، رغم أن هناك عشرات الأدلة على أن الشيخ محمد يونس الجعيص، وهو اسمه الحقيقي، عمل في جهاز الرقابة. خذ لذلك مثلاً ما ذكره الصحافي وثيق الصلة بالحياة الفنّية محمد السيد شوشة، في صحيفة "الأخبار" القاهرية في 10 تموز/ يوليو 1969، أي بعد أربعين يوماً من رحيل القاضي في الأول من حزيران/ يونيو 1969، من أنه اعتزل الكتابة في الصحافة وتولى منصب رقيب المطبوعات ويختص بالتفتيش على المسارح والملاهي. وإذا كان السيد شوشة قد قال ما قال بعد رحيل يونس القاضى، فإن صحيفة "الأخبار" تذكر بتاريخ 23 شباط/ فبراير 1966 في حياة الشاعر المعروف ما نصه: "وعندما عُيّن يونس القاضي رقيباً على المسرحيات ومفتشاً على المسارح ودور الملاهي، حكم بالإعدام على أغانيه المتهمة بالخلاعة أثناء عمله كرقيب، فقد شطب بقلمه الأحمر كل هذه الأغاني ومنع نشرها أو إذاعتها، وكان من أعماله في عمله كرقيب إلغاء بدلة الرقص العارية، وابتكار بدلة الرقص الجديدة التي علمت الراقصات الاحتشام". وهو الأمر الذي أكدت عليه أيضا صحيفة "المساء" بتاريخ 3/3/1965 مع إضافة مهمة وهو أن عمله في الرقابة كان العام 1923، ثم يأتي التأكيد هذه المرة على لسان يونس القاضي نفسه الذي قال لمجلة "الكواكب" في الثامن من شباط/فبراير 1966: "في سنة 1928 وظفوني رقيباً في الداخلية على الأغاني لأراقب نفسي وغيري من المؤلفين، وأوقفت بالفعل الأغاني الهابطة، وفي مقدمتها عدد كبير من مؤلفاتي، لكن مرتبي في هذه الوظيفة لم يزد على 15 جنيهاً، ولذلك سرعان ما استقلت ورجعت إلى الكتابة في الصحف".


وهكذا بدا اللبس أولاً في المسمى الوظيفي للشيخ يونس القاضي، وثانياً في تاريخ التحاقه بالعمل في الرقابة. وهنا توجهتُ بالسؤال للدكتورة إيمان مهران، الأستاذ في أكاديمية الفنون والتي وضعت أكثر من كتاب عن الشاعر الراحل، أهمها "يونس القاضي مؤلف النشيد الوطنى وعصر من التنوير"، فأكدت انه التحق بالفعل بتلك الوظيفة العام 1928 بناء على طلب من نائب حكمدار الداخلية، من أجل محاربة التدني في مستوى كلمات الأغنية السائدة، لكنها زادت الأمر التباساً حين أكدت أن القاضي كان أول رقيب على المصنفات الفنية في مصر، وأنه استمر في منصبه حتى بلوغه سن المعاش في مطلع الخمسينيات. ولما سألتها عن مصدر تلك المعلومة، أكدت أنه أحد أقربائه الثقاة، والذي لازم القاضي في السنوات الأخيرة من حياته. المدهش أن مسألة كونه أول رقيب على المصنفات الفنية قد تكررت كثيراً في العديد من المصادر الأخرى.

وحقيقة الأمر أنني لا أطمئن إلا إلى المعلومات الموثقة، لا المنقولة شفهياً. وعلى ذلك فإن المؤكد فقط أنه عمل بالفعل في جهاز الرقابة على خلاف ما ذهبت إليه كراوية، وأن هذا كان العام 1928. أما عدا ذلك، فلي عليه بعض الملحوظات، أولها أنه لم يكن أول رقيب على المصنفات الفنية، لأن لائحة التياترات في مصر التي حكمت العمل الرقابي صدرت العام 1911، ومن ثم ليس من المنطق أن يكون أول رقيب بعد ذلك العام بسبع عشرة سنة، حتى لو كان تولي المنصب خلال تلك السنوات موظفون انكليز. الأمر الثاني أنه لم يكن يوماً الرقيب العام أو مدير جهاز الرقابة، كما يسمى حالياً، لأنني طالعت أهم كتابين صدرا عن الرقابة على المصنفات الفنية، الأول وضعته السيدة اعتدال ممتاز، المدير العام الأسبق للرقابة، والثاني للباحث والمؤرخ محمود علي، ولم يأت أي من الكتابين على ذكر اسم يونس القاضي كرقيب عام رغم أن الكتابين أوردا العديد من الأسماء التي تولت المنصب الرفيع.

خلاصة القول إن الشاعر والزجال يونس القاضي، عمل بالفعل في جهاز الرقابة، كمفتش على المسارح ونصوص الأغنيات، من دون أن يكون أول رقيب أو حتى رقيباً عاماً، وأن عمله لم يستمر طويلاً، إذ عاد بعد ذلك للكتابة الحرة، بعكس ما قيل من أنه استمر في وظيفته إلى أن وصل لسن التقاعد في مطلع الخمسينيات، وذلك لسبب بسيط، وهو أن الرجل من مواليد العام 1888، وهذا معناه أن بلوغه الستين (سن الإحالة إلى المعاش) كان في العام 1948.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها