الخميس 2019/08/15

آخر تحديث: 11:34 (بيروت)

عندما تسللت سينما التجريب إلى الجمهور.. عبر الأفلام الغنائيّة!

الخميس 2019/08/15
عندما تسللت سينما التجريب إلى الجمهور.. عبر الأفلام الغنائيّة!
لكل إنسان جحيمه الخاص
increase حجم الخط decrease
يُعتقد أنّ لكل إنسان جحيمه الخاص، وأنّ هذا الجحيم هو تمظهر للكابوس الشخصي الأقصى الذي يتخيّله كلّ منّا. يتنبّأ السينمائي إنغمار برغمان أنّ جحيمه الخاص، إن وجد، سيكون جلوسه لمشاهدة أفلامه إلى الأبد.

وإن أردتُ أن أختار صورة سينمائيّة تمثّل هيئة جحيمي لاخترت المشهد الإفتتاحي، للفيلم الغنائي جيجي من إخراج فينشيتي مينالي العام 1959: حديقة غابة بولونيا الفرنسية في بداية القرن العشرين يتنزّه فيها رجال ونساء من الطبقة المخمليّة مع ألوانهم الضاجّة بالفرح والسعادة المفرطة على وجوههم، مع موسيقى مفعمة بحال من راحة البال والنفس. المشهد يطمح بوصف ما قد تكون عليه هيئة الفردوس ان انتقص منها القليل من الحب، الذي سيقوم الفيلم بإنشاده، لكنّ بالنسبة اليّ، هذا هو الجحيم!.


في الحقيقة، إن وُضعت روحي في أيّ مشهد غنائي من الأفلام الغنائيّة الأميركيّة الكلاسيكيّة أمثال "غناء تحت المطر" أو "صوت الموسيقى" لالتهبت ألماً وقيئاً. لا أعلم كيف استطاعوا تسمية هذه السينما "كوميديا" موسيقية!

لكن الغريب في الأمر أنّني أرى نفسي مؤخّراً مسيّراً نحوها، ألاحق تاريخها وحقباتها كما لو أني غفلت عن شيء مهم داخل هذا التشكيل الفيلمي، طوال سنوات من المشاهدة والتطلّع النقدي. بداية هذا الانجذاب الغريب، كانت حين اطلعت منذ سنتين على كتابات المنظّر السينمائي توم غانينغ، الذي يربط بدايات السينما في آخر القرن التاسع عشر، مع فنون شعبية استعراضية أخرى معاصرة لها مثل السيرك والاحتفالات الكرنفالية، اذ كان يتاح للسينما أن تتحاور مع المشاهد من دون الحاجة لإغفال عن نفسها وراء السرد. يمكن التحقّق من الأفلام الأولى للمخرج جورج ميلييز  كأهمّ ما تبقّى لنا من تلك الحقبة السينمائيّة حيث كانت أفلامه القصيرة بمثابة ضروب من السحر، يفبركها ميلييز مستخدماً التقنيات السينمائية لصنع حيل وألعاب وهميّة يؤدّيها للكاميرا كما لو أنّه يتوجّه للجمهور مباشرة.

يشير غانينغ أن القليل من هذه القدرة السينمائيّة المغيّبة، ما زال يبيت في الأفلام التجريبيّة التي تظهر وتحقق في ماديّة العمل الفيلميّ، كما في الأفلام الغنائية الذي يقوم تشكيلها السينمائي على خرق الوهم السردي من خلال توجّه المؤدين بالغناء نحو الكاميرا فالجمهور المفترض للعرض. هي تشكيلات تتعرّى فيها السينما أمام جمهورها لتشذبه إليها متشابهة مع ما تقوم به "النمرات" الاستعراضية في السيرك. المثير في هذه النظريّة، عدا عن خلقها لتلك الصلة غير المتوقعة بين السينما التجريبية الأقل مشاهدةً، والسينما الاستعراضيّة واسعة الجمهور، هو الدعوة إلى النظر في السينما الغنائية كمساحة للتجريب في التشكيل السردي. من الممتع تخيّل السينما الاستعراضيّة كمساحة تتسلّل عبرها السينما التجريبيّة إلى الجمهور الواسع.

لكن، لكي نجد أمثالاً آثرة في التجريب السردي، شكلاً ومضموماً، علينا الابتعاد عن السينما الغنائيّة الهوليووديّة الكلاسيكيّة المحافظة التي كانت سائدة منذ الثلاثينات حتى منتصف الستينات والذهاب إلى سينما السبعينيّات الثائرة.

"روكي هورور بيكتشر شو"
البداية مع فيلم "روكي هورور بيكتشر شو"، المقتبس من مسرحية موسيقيّة، تسرد حدث لجوء امرأة ورجل متزوجّين حديثًا إلى قصر غامض بعد تعطّل سيارتهما تحت المطر. صاحب القصر شخصية فاتنة، بين الفامبير والعالِم فرانكنشتاين، يغري كلاً منهما على حدة، ثمّ يتضح أنّه وخدّام القصر كائنات فضائية وأنّه متحوّل جنسي. يرافق التأليف السردي المختلف عن الغنائيات التقليدية خروج الفيلم عن التأليف الموسيقي الاستعراضي المألوف القائم على الأوبيريت والجاز الأوركيستري واستخدام تشكيلات موسيقية جديدة هي الآرت الروك والغلام روك.

في دخولهما إلى هذا القصر يُدخل الثنائي إلى حياتهما تجارب جنسية وجندريّة مغايرة، فتكون التجربة بمثابة إيقاظ لانشقاق عن الحياة الزوجية التقليديّة وللتحرّر الجنسي. لاقى الفيلم نجاحًا فريداً في مجتمع الميم النويوركي، حيث بدأ الحضور بالتنكّر بأزياء تشابه شخصيات الفيلم والمشاركة في الغناء والرقص مع المشاهد أثناء العرض، فتحوّل كل عرض كمناسبة لأعضاء مجتمع الميم في الخروج إلى العلن أثناء العرض، بتزامن دخول الثنائي المتخيّل في الفيلم إلى نمط حياة مجتمع الميم. انتقلت عدوى عروض "روكي هورور بيكتشر شو" إلى مدن ثم بلاد أخرى ولايزال يعرض ويحتفى به هكذا حتى يومنا هذا. هذا الحدث-الأعجوبة هو استذكار السينما لبداياتها وحالتها السلفية، أي فن عروض متفاعل مع الجمهور ويقوم على توافق بين العرض والحضور مثل السيرك وعروض السحر. أمّا الطرح الجندري المغاير فجعله أوّل الأفلام التي تمسك بآليات الاستعراض الغنائي وتلتوي به نحو التجديد التشكيلي والاجتماعي.  


"قروش من الجنّة"
في بداية الثمانينات، ظهر الفيلم "قروش من الجنّة" من إخراج الأميركي هربرت روس، وكتابة الإنكليزي دنيس بوتر الذي حوّل مسلسله التلفزيوني بالإسم نفسه إلى سيناريو سينمائي، فنقل أحداثه من لندن في الثلاثينات إلى شيكاغو زمن الانهيار الاقتصادي الكبير. يعتبر دنيس بوتر أهم كاتب دراما تلفزيونية في بريطانيا، ويعدّه بعض النقاد بأهميّة الكاتب المسرحي برنارد شو، لكنّ مكانته انتقصت لأنّه فضّل الكتابة للتلفزيون على الكتابة للمسرح. من سِمات أعمال بوتر، استعمال موسيقى الثلاثينات اللطيفة والسعيدة في مشاهد دراميّة حادّة حيث يحرك الممثلون الشفاه كما لو أنّهم يلفظون كلمات الأغاني الشعبية، ويرقصون على أنغامها كأنّ شيئاً من الماضي السعيد قد استحوذ على حالهم بينما هم يعيشون خيبة الحاضر. 

يعرض الفيلم أحداث حياة المتزوّج أرثر، مع عشيقته أيلين، اللذين تتداخل حياتهما مع شخصيات وأحداث قاتمة تحمل مأساة الشقاء اليومي. لكنّ شخصيات بوتر ليست بريئة أمام العالم، وكل شخصيّة تحمل مع طيبتها سمّاً ترميه في مياه من تحبّ. العاشق المحب يكذب، الفتاة البريئة تحتال لتسرق، والموسيقي اللطيف يغتصب. فيلم قاتم يشابه في سذاجة شخصياته، سذاجة الأفلام الغنائية في الثلاثينيات، لكنّ قدميه تغرقان في وحل الواقع، وتأتي الموسيقى الثلاثينية اللطيفة لكي تقول لنا إنّ الحلم الأميركي يبعد خطوتين عن كابوس الواقع، وأنّ في قلب نسيم الكوميديا الموسيقية قيظ حاد من الدراما.
‪ ‬

‫"كلنا نعرف الأغنية"‬
بعد وفاة الكاتب دينس بوتر العام 1994، وجه المخرج الفرنسي ألان رينيه تحية لفنّه حين أهدى فيلمه الموسيقي‫ "كلنا نعرف الأغنية" لبوتر العام 1997. يستعير الفيلم من بوتر ترنيمته الدرامية حيث تستيقظ أغنية داخل أفواه الشخصيات بشكل فجائي، لتكمل جملة ما وللتعبير عن شعور ما، وغالباً ما تكون الأغنية متواطئة مع الحدث سردياً بمعنى أنّها تزيد على التعبير عن المشهد-الحدث، لكن تكون متضاربة مع التشكيل المشهدي، مثل أن تكون أغنية سعيدة بينما المشهد حزين، أو أن تكون بصوت رجل وهي تخرج من فم امرأة مما يخلق نشازاً سردياً مضحكاً. 

يبدأ الفيلم لحظة يرفض الجنرال النازي، دييتريتش فون شولتيتز، تنفيذ أوامر هتلر بنسف باريس، حيث تنطلق من فمه أغنية لجوزفين بايكر عن حبها للمدينة. ينتقل الفيلم إلى الزمن المعاصر للفيلم من خلال قصة تتداخل فيها شخصيات باريسية في شقق باريسية عديدة، لكن تبقى الأغنيات، تظهر فجأة كأنها تحمل ومشاعر الشخصيات شيئاً من ذكرى تاريخ باريس المختل. فيما كانت الأغاني عند بوتر تعبّر عن خيبة حاضر الشخصيات مقابل أحلامها، تأتي الشرارات الغنائيّة عند رينيه، لتذكّر بأنّ التاريخ هو كائن كارِثيّ شرس يتربّص تحت سطح الحاضر وقادر على أن نقض الزمن السردي وشَطره. ثيمة مشتركة في أفلام عديدة لآلان رينيه، مثل "هيروشيما حبيبي" و"السنة الماضية في مارينباد"، ولو اختلفت طرق رينيه في تجسيدها. 


من أسس أداء السرد السينمائي، تقنيّة تسمّى اللقطة واللقطة المعاكسة التي ترسم أمامنا أنّ شخصاً ما ينظر إلى شيء أو شخص آخر، ثم بلقطة معاكسة نرى ما هو أو من هو. في الكثير من تلك اللقطات واللقطات المعاكسة، يقوم تبادل نظرات بين هذين الشخصين. المثير في السينما الغنائيّة أنّه، في كلّ مرّة ينظر المؤدّون إلى الكاميرا للغناء أو الرقص، هناك افتراض لوجود لقطة معاكسة غير مرئية، بل متخيلة يحضر فيها ما تستطيع السينما الغنائيّة وحدها على إحضاره وهو الجمهور الفيلميّ. لكي تأخذ تلك الفرضيّة شكلاً أكثر جمالية يجب استعمال التعبير الفرنسي المستخدم للتعبير عن اللقطة واللقطة المعاكسة وهو "الحقل والحقل المعاكس" بمعنى حقل الرؤية. فيصبح كل مشهد غنائي حقل أشباح، تلفظ كلمات وترسم تحركات لكي ترمي سحراً في حقل معتم من الوجوه والأيدي المصفقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها