يشبّه المخرج اليوناني، تيو انجولوبولوس، غويرا، الذي كتب معه بعض الأفلام، بـ"المحلل النفسي الذي يحاور مريضه ليستخرج منه ومعه ما يكمن داخله ويدفعه إلى اكتشاف ذاته، مثل محامي الشيطان الذي يحارب رؤية المخرج ليتحداها وليُخرج منها -الإثنان معًا- ما يرقد داخلها من حقيقة وما يشبه انشغالات المخرج الوجودية والفنية". فعند كتابة فيلم "أماركورد" مع فيديريكو فلّيني، الذي أمضى سنواته اليافعة في قرية مشابهة لتلك التي عرفها غويرا في صغره، تقاسم الإثنان تجارب الطفولة الخاصة لخلق سرديات أوتوبيوغرافية التحمت فيها قصصهما، حتى ما عاد غويرا يدري أي المشاهد تتضمّن، وأيها القائم على ذكريات فلّيني.
في العام 1973، اقترح تونينو غويرا، على أندره تاركوفسكي، القيام بفيلم عن فنان روسي يرتحل عبر إيطاليا. بدأ الإثنان بالعمل على الكتابة في موسكو العام 1978، ثم عبر الريف الإيطالي في العام التالي. عادة ما صنع تاركوفسكي أفلاماً من كتابة آخرين، لكنّه دأب دائمًا على فرض كلمته الأخيرة في السيناريو، لتطغى رؤيته على النسخة النهائية قبل التصوير. إلّا أنّ أندره، الذي يحمل ذكرى والده الشاعر، رأى في غويرا شريكًا كاملًا حتى إنّه كتب في يومياته -أيام العمل سويًّا على الفيلم- مقولة لغوتّه: "من يريد أن يفهم الشاعر، عليه الذهاب الى بلاد الشاعر".
كانت البداية مع ثلاث أفكار أساسية للفيلم: لوحة "مريم الحامل" لبييرو ديلا فرانشيسكا، بهو فندق، وحلم يتضمن غرفة بلا نافذة. وكما عرّف أنجولوبولس الطريقة الغيراوية، كانت الجلسات مشابهة للعلاج النفسي، حيث يطرح غيرا الأسئلة على تاركوفسكي، طالباً منه وصف كل ما يتخيله، كأنّه يحدِّث شخصًا أعمى. كان على غويرا تلقي اعترافات وتصورات المخرج، والتخبط معها في مخاض نتج عنه سيناريو فيلم "نوستالجيا" العام 1982، حمل انغماسات تاركوفسكي بالذات، والعذاب الروحاني المتعطش للترقي وتصدي غويرا لها بشاعرية واقعية مبنية على إنسانية حياة الريف الإيطالي.
ليس هناك الكثير من الدراسات المعنية بمرحلة كتابة السيناريو، خارج الطروحات الكلاسيكية في تقنيات السرد الدرامي. معظم ما نجده فيها، يتمحور حول ما يستطيع السيناريست القيام به من وجهة نظر صناعة الأفلام بالطريقة الأميركية، فيكون مسؤولاً عن الحبكة والتنظيم الدرامي والحوار. أما المخرج فيقوم بالتأليف السمعي-البصري. لكن، للكتابة دورها في خلق الفكرة والثيمة العامة والدخول في تفاصيل البناء الصوري للعمل. تخطى تونينو غويرا دور الدراماتورج التقني وتسلل داخل أعمال الآخرين، ليصبح مؤلفاً سينمائياً وشاعر ظل.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها