الأحد 2018/07/01

آخر تحديث: 11:32 (بيروت)

تونينو غويرا: قليل من الشِّعر في السيناريو

الأحد 2018/07/01
increase حجم الخط decrease
تونينو غويرا، شاعر ايطالي ولد في سانتاركانجيلو دي رومانيا العام 1920. بدأ كتابة السيناريوهات العام 1956 مع فيلم "مان تد وولف" للمخرج الإيطالي جيزيبي دي سانتيس. ورغم أنّه ألّف أكثر من مئة سيناريو، فإن أفضل ما أعطاه، كان عند تعاونه المباشر في التأليف مع بعض المخرجين مثل مايكل أنجلو أنطونيوني في "أفينتورا" (1960)، "لا نوتي"(1961)، "ليكليسي" (1962) و"ديزيرتي روسو" (1964) كما فيلم "آماركورد" (1973) مع فيديريكو فلّيني، و"نوستالجيا" (1983) مع اندره تاركوفسكي.

لقد شارك غويرا في نسج تاريخ السينما الإيطالية، من خلال خلق التشكيلات السردية الخاصة بها، كسينما الانسلاخ (alienation)، والكوميديا "على الطريقة الإيطالية -الكوميديا آليطاليان". سينما الإنسلاخ أو التغريب، هو الاسم الذي أطلقَه النقّاد على أفلام مايكل أنجلو أُنطونيوني الأولى، في مرحلة ما بعد "الواقعية الجديدة الإيطالية". أمّا "الكوميديا آليطاليان" فهي إستحضار "للكوميديا دي لارتي"، ضمن إطار إجتماعي معاصر تعبّر فيه الكوميديا المتشائمة عن حال أفراد لا يتماشون مع تحولات المجتمع الإيطالي الحديث مثل أفلام المخرج "ماريو مونيتشيللي". يشير غويرا إلى أنّ شعره مليء بالصور، وأنّ قصائده فيها شيء من السينما حتى قبل أن ينشغل داخلها. وعن الكتابة الفيلمية، يقترح أن جلّ ما يقوم به هو تقطير القليل من الشعر داخل البناء السردي.

عند كتابة أفلام مايكل أنجلو أنطونيوني، الذي يخيط عالمه من الصورة والألوان، ولا يُعطي للنص الكلامي سوى القدرة على التعليق على الحدث الصوري، عمل الإثنان على رصد كلّ ما ينتمي إلى الوصف الأدبي والكلامي في السيناريو الأوليّ. تلك التقنية جعلتهم يفهمون ويحدّدون طبيعة ومحفزات الشخصيات والبناء الدرامي، قبل سحب ذلك الوصف واستبداله بالأفعال والأحداث. إن كانت شخصيات تتحدّث عن موضوع ما، يستبدل كلامها بالتصرف الجسماني بشكل ما، وإن كان هنالك وصف لما في داخلها من مشاعر، يتصور الإثنان مشهدية صورية أو تحركاً جسمانياً وصورياً يعبر عنها. ينسحب الأدب الكلامي ليحل مكانه الأدب الفيلمي.

عند كتابة "سرديات الإنسلاخ" مع أنطونيوني، يعود الفضل إلى غويرا في ابتداع إدخال "العنصر اللاعقلاني"، في السيناريو حيث تدخل الأحداث أو الإنفعالات غير المنطقيّة داخل الإيقاع الواقعي، لتشكّل حالة عبثيّة تحمل السرد نحو الشاعريّة. يعود ذلك إلى أنه ينظر إلى البناء الدرامي مثل التأليف الموسيقي، فتكون كل عناصر الدراما آلات موسيقية متشابكة، ومتى شدّه الإيقاع إلى أحد العناصر، رفعها، مثلما يرفع المؤلف إحدى النغمات فوق غيرها، من خلال تدخل لاعقلاني للشِّعر.


يشبّه المخرج اليوناني، تيو انجولوبولوس، غويرا، الذي كتب معه بعض الأفلام، بـ"المحلل النفسي الذي يحاور مريضه ليستخرج منه ومعه ما يكمن داخله ويدفعه إلى اكتشاف ذاته، مثل محامي الشيطان الذي يحارب رؤية المخرج ليتحداها وليُخرج منها -الإثنان معًا- ما يرقد داخلها من حقيقة وما يشبه انشغالات المخرج الوجودية والفنية". فعند كتابة فيلم "أماركورد" مع فيديريكو فلّيني، الذي أمضى سنواته اليافعة في قرية مشابهة لتلك التي عرفها غويرا في صغره، تقاسم الإثنان تجارب الطفولة الخاصة لخلق سرديات أوتوبيوغرافية التحمت فيها قصصهما، حتى ما عاد غويرا يدري أي المشاهد تتضمّن، وأيها القائم على ذكريات فلّيني.

في العام 1973، اقترح تونينو غويرا، على أندره تاركوفسكي، القيام بفيلم عن فنان روسي يرتحل عبر إيطاليا. بدأ الإثنان بالعمل على الكتابة في موسكو العام 1978، ثم عبر الريف الإيطالي في العام التالي. عادة ما صنع تاركوفسكي أفلاماً من كتابة آخرين، لكنّه دأب دائمًا على فرض كلمته الأخيرة في السيناريو، لتطغى رؤيته على النسخة النهائية قبل التصوير. إلّا أنّ أندره، الذي يحمل ذكرى والده الشاعر، رأى في غويرا شريكًا كاملًا حتى إنّه كتب في يومياته -أيام العمل سويًّا على الفيلم- مقولة لغوتّه: "من يريد أن يفهم الشاعر، عليه الذهاب الى بلاد الشاعر".

كانت البداية مع ثلاث أفكار أساسية للفيلم: لوحة "مريم الحامل" لبييرو ديلا فرانشيسكا، بهو فندق، وحلم يتضمن غرفة بلا نافذة. وكما عرّف أنجولوبولس الطريقة الغيراوية، كانت الجلسات مشابهة للعلاج النفسي، حيث يطرح غيرا الأسئلة على تاركوفسكي، طالباً منه وصف كل ما يتخيله، كأنّه يحدِّث شخصًا أعمى. كان على غويرا تلقي اعترافات وتصورات المخرج، والتخبط معها في مخاض نتج عنه سيناريو فيلم "نوستالجيا" العام 1982، حمل انغماسات تاركوفسكي بالذات، والعذاب الروحاني المتعطش للترقي وتصدي غويرا لها بشاعرية واقعية مبنية على إنسانية حياة الريف الإيطالي.

ليس هناك الكثير من الدراسات المعنية بمرحلة كتابة السيناريو، خارج الطروحات الكلاسيكية في تقنيات السرد الدرامي. معظم ما نجده فيها، يتمحور حول ما يستطيع السيناريست القيام به من وجهة نظر صناعة الأفلام بالطريقة الأميركية، فيكون مسؤولاً عن الحبكة والتنظيم الدرامي والحوار. أما المخرج فيقوم بالتأليف السمعي-البصري. لكن، للكتابة دورها في خلق الفكرة والثيمة العامة والدخول في تفاصيل البناء الصوري للعمل. تخطى تونينو غويرا دور الدراماتورج التقني وتسلل داخل أعمال الآخرين، ليصبح مؤلفاً سينمائياً وشاعر ظل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها