السبت 2018/08/25

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

عُقم هوليوود وأخواتها

السبت 2018/08/25
increase حجم الخط decrease
في كلّ مرّة نتورّط مع هوليوود، تستخدم اللعينة الخديعة الدراميّة نفسها، وتقنيّات الكتابة الدرامية والتمثيل، لإيقاعنا في حالة تماهٍ مع الشخصية الرئيسيّة للفيلم، التي تتفاعل في القصة المرويّة مع حبكة دراميّة محوريّة، تلتفّ حولها عناصر العالم المصوّر. 

من خلال بنية سردية قائمة على شخصية محورية وحبكة موجهة في كل فيلم، تراهن العجوز على تواطئنا مع الصراعات الأخلاقية والعاطفية للشخصية، كما لو أنّها تتزامن مع قيمنا الأخلاقية وأزماتنا العاطفية وتتآمر علينا وعلى شخصيات الفيلم، لكي يبدو ما يحصل مع الشخصيات المصورة مشابهاً، ولو مجازياً، لأزمات الواقع. حتى أن معظم أفلام السينما الهوليوودية وشبيهاتها، تحسم الدقائق الأولى لظهور الشخصية الرئيسية لصالح التنوير على سمات واضحة تحملها الشخصية المحورية وتحمل بها السرد. من "ذهب مع الريح" إلى "حُماة المجرّة"، لماذا لا تستطيع هوليوود خلق شخصيات مستقلة عن الجمهور المحدق فيها؟ لماذا لا تثق في قدرة مَن في حضرتها على الانغماس في حياة شخصية متخيلة من دون التماهي داخل واقعها؟



حتى عندما تطرح هوليوود شخصية رئيسية قاسية، شريرة أو عبثية، إلّا أنّها تحيك حولها دائمًا تيمات تساعد على ترسيخها في مخيلة الجمهور، كشخصية تتشابه مع جزء من الواقع اليومي،  وإن لم تكن الشخصية الرئيسية تتعامل مع تلك التيمة، فلا بدّ أنها تحاورها أو أن تكون محاطة بها من خلال الشخصيات الثانوية. والمثال الأكثر شيوعاً لخديعة خلق التماهي هذه، هو مدى استخدام هوليوود في الأفلام والمسلسلات لتيمة العائلة كحاضن للدراما. ما علينا سوى النظر إلى المسلسلات الأميركية المعاصرة، الجيد منها والسيء، ومعظم المسلسلات العالمية القائمة على الشكل الهوليوودي، لنرى الكمّ الهائل من القصص التي تبدأ أو تنتهي بالنزاع أو التصالح العائلي. قد يبدو لوهلة أنّ ذلك الإتكاء يقوم على مدى أهميّة العائلة في البنيان الأخلاقي الأميركي. لكنّ هناك ما هو أكثر تجذراً في الفكر الأميركي، وهو الحاجة الماسة لإظهار الذات كسلعة جاهزة للخوض في العمل الإستهلاكي. من "حرب النجوم" إلى "برايكينغ باد"، تعود هوليوود إلى حيلة استخدام تيمة العائلة، وذلك لا يعود فقط إلى فقر في المخيلة والكتابة أو حتى إلى ما تحمله الدراما العائلية من ضمانة تواطؤ الجمهور معها وخفة وطأة المتخيل على الواقع. بل لأن النظام الهوليوودي هو نظام دراماتورجيا عقيم، لا يستطيع إنجاب شخصيات تتخطى جمهورها، ويصعب عليه إظهار الآخر.

لا يمكن لهوليوود، وهي وليدة الصناعة الأميركية، أن تصنع ما يتناقض مع أساس الفكر الإستهلاكي. لذا، تجعل من شخصياتها سلعة، يسهل على الجمهور إيجاد نفسه فيها، لكي يتذوّق حياته بطعمٍ مختلف، من دون التنبه إلى البدائل الأخرى في تكوّن الذات. فمتى دخلنا إلى عالم هوليوودي الصنع، ووجدنا شخصيات خارج الأشكال الكلاسيكية للخير والشر؟ وإن قامت العجوز بالمغامرة، وطرحت في فيلم نادر أو في مسلسل جريء، شخصية ما، ملتوية الملامح ومتعددة السمات، فإنها تعتذر فورًا على فعلتها هذه، وتسحب تلك الشخصية إلى داخل نزاع كلاسيكي، كالعائلة، الوفاء، التكبّر، أو الوطنيّة. لا تستطيع قبطانة السفينة الأميركية أن تبحر بجمهورها إلى بحار أعمق من الدراما المعتادة، لأنها لا تستطيع أن تواجه تلك التساؤلات الوجدانية من دون التشكيك في نفسها. كيف لها أن تقود جمهورها إلى التشكيك في التركيبة الدرامية القائمة حرصًا على محاولة الفرد تحقيق ذاته والنجاح أو الفشل في ذلك، وهي لا تقوى على التشكيك أو على الفشل؟ يمكن القول أنّ الإجابة على تلك الأسئلة، تكمن في حسابات بسيطة لما تفترضه السوق السينمائية من إنتاجات سهلة الهضم من دون الخوض في مغامرات مفتوحة.

لكن هوليوود ليست فقط معملًا يضخ المنتجات في أفوهنا وعقولنا، هي أيضًا مسخ حزين يخاف أن ينظر إلى نفسه في المرآة. تكثر هوليوود من استعمالها للسينماتوغراف خوفًا منه، تظلّ توجه جمهورها نحو نفسه، خوفاً من أن يستدرك نفسه قليلاً ويبدأ بالنظر إليها. يمكن التقدير بأنّ لمنتجي الأفلام في هوليوود كابوساً مشتركاً، وهو أن يستيقظ الجمهور من التماهي، في حالة العرض، ويدير ظهره للشاشة ليحدِّق في آلة العرض. هي اللحظة التي ترتجف هوليوود خوفاً منها، لذا لا تتوقف عن استدراج الجمهور/العالم إلى التعاطي مع شخصيات وقصص تتشابه في ما بينها، كي لا نستطيع التمييز بين هامفري بوغارت و"باتمان".



في المقابل، تقاوم أشكال أخرى من الكتابة الدرامية السينمائية، النظام الهوليوودي وأعوانه، من خلال بسط نسيج درامي لا يرتمي على تقنيات التماهي، بل على أنماط أخرى من التشكيل السردي. أفلام درامية لمخرجين ومخرجات، مثل كريستوف كيشلوفسكي، مارغريت دوراس، فيرنر هيرتزوغ، عباس كياروستامي وكلير ديني، تنشغل بالمسافة بين الجمهور وشخصيات الفيلم، عوضًا عن طمسها. تبني جسورًا داخلها مُعمّدة بالتمثيل الصوري والصوتي وبالكتابة السردية المفتوحة، لكي تنظِّم انجذاب العين والأذن والعقل والمخيلة والذات، إلى داخل الشخصيات والدراما الفيلمية. بالتخلي عن ألاعيب سيكولوجيا الجمهور البديهية، وباستبدالها بتقنيات التماهي وتقنيات الجذب التشكيلي الممزوج بالتغريب السيكولوجي، تخرج تلك السينما من علاقتها مع الجمهور كمستهلك لسلعة معهودة، وتدعوه للقائها داخل مخاض علاقة مغايرة يشارك في صنعها، فيتواطأ أكثر في خلق حيوات فيلمية مغايرة تعيش داخلها شخصيات متخيلة مستقلة عنه. يستطيع حينها أن يرى ويسمع ويشعر بالآخر، عوضًا عن الرجوع دائمًا إلى نفسه كما في حال التماهي.

في المرحلة الأولى من سينما المخرج جان لوك غودار، أي تلك المعرّفة بمرحلة "الموجة الجديدة"، ترتكز غالبية أفلامه على تصوير شخصية "آنا كارينا" كأيقونة فيلميّة هائمة في الواقع الباريسي المعاصر، تتصارع معه وعادةً ما تنتهي ضحيةً له. لكن غودار يسحب من سينماه قدرتها على الدعوة إلى التماهي مع شخصيات "آنا كارينا"، ويشدّد على التذكير بالمسافة بين العالم الفيلمي وصالة العرض، لكي يسمح لتلك الشخصيات بالمثول أمامنا كشخصيات مستقلة عنا، ولكي يسمح لنا بأن نحبّها من دون التماهي معها. تلك القدرة على محبة الآخر الفيلمي، من دون الحاجة إلى التماهي معه واستبداله بذواتنا، هي ما لا تستطيع هوليوود فعله. لأن النظام الهوليوودي، مثل كل نظام حاكم، غير قادرٍ على الحب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها