الخميس 2019/05/02

آخر تحديث: 17:49 (بيروت)

كذبة حليمة آدن

الخميس 2019/05/02
كذبة حليمة آدن
increase حجم الخط decrease
لعل عبارة "حليمة آدن تصنع التاريخ" هي واحدة من أغبى ما يتداوله الإعلام الغربي من شعارات ترويجية على الإطلاق، لكنه، مع ذلك، فاعل وناجح ومربح، كما هي الحال دائماً. 

فالظهور المرتقب، بالبوركيني، لعارضة الأزياء المحجبة والمتحدرة من أصول صومالية، في غلاف مجلة "سبورتس إلوسترايتد" للمايوهات، هو حلقة في سلسلة يوميات العولمة والنُّظم الرأسمالية في أقصى تجلياتها. لا تاريخ يُصنع هنا، ولا انتصار نسائياً، ولا تقدُّم للإسلام "اللايت"، ولا للمحجبات، ولا حتى لذوات البشرة الملونة. فحليمة هي مفتاح سوق جديدة لصانعي الموضة وأيقوناتها ومعايير الجمال، شأنها شأن تقليعة العارضات الإثنيات قبل عقد أو اثنين، واليوم ذوات المقاسات الكبيرة اللواتي اختُرعت لهن صفة "المستديرات" (curvy)، وزميلاتها البيضاوات اللواتي ينشرن في "انستغرام" صوراً لهن بلباس البحر محتفيات بعلامات "الترهل السيكسي" في أفخاذهن (stretch marks).. وذلك كله للتسويق تحت عنوان "الضَّم" في حضن الموضة السائدة، بكل قيمها ومفاهيمها. وفي حالة حليمة، التي اخترعوا لها هي أيضاً مصطلحاً مناسباً للتسويق هو "الموضة المتواضعة" (modest fashion)، بدلاً من "المحتشمة" أو "المتدينة" أو "المحافظة"، فلعلنا في صدد اختراق مشكور لصورة الإسلام، المنمطة وغير المنمطة، يحرزه الإنتاج الكمّي للعموم، والشركات متعددة الجنسيات، وليس "الخَرق" الذي يراد لنا أن نقرنه بشخص الجميلة الصومالية المحجبة.

بالطبع، الخبر لطيف. ففي زمن "داعش"، وثقافة رهاب الآخر التي توّجها فوز دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، وأيضاً في زمن "مي تو"، ورشيدة طليب وإلهان عمر (التي تجوز مقارنتها، من حيث التأثير، بحضور المشاهير في مواقع التواصل الاجتماعي، أكثر بكثير من رجال السياسة ونسائها).. يأتي بوركيني حليمة آدن كتنويعة بصرية مبهجة. للدقة، تنويعة أميركية مبهجة. ذلك أن الخبر التالي في الإنترنت هو توجه حليمة إلى اسطنبول لتدشين مجموعتها الخاصة من أغطية الرأس والشالات. وبأثر التغيير الجغرافي للحدث، لا أكثر، يمسي ثانوياً بل وربما مبتذلاً، يشبه عشرات الأخبار الآتية من تركيا وإيران، ولبنان وسوريا، وحتى من بعض دول الخليج التي تقدم نفسها معتدلة ومنفتحة، والتي لا تعود أجهزتها الرقابية في حاجة إلى استخدام قلم التلوين الأسود الشهير كي "تستُر" صُور حليمة آدن في مجلة ما.

هي الطبخة الأميركية المعهودة، والتي، وبفضل مكوّن سرّي ما، لا تفقد رونقها، وما زالت تُصدَّر بنجاح: أميركا أرض الفرص، حيث يمكنك أن تكون ما تريد، ولذلك عليك دوماً أن تنافس، أميركا اليمين واليسار وما بينهما، الحرية، التنوع، سلاسة ذوبان الكلّ في الكلّ، وشرارات احتكاك الكلّ بالكلّ. هذا في المعنى الإعلاني. لكن، في المعنى، المعنى فحسب: هي الليبرالية القصوى، النّهم للأرباح (ولا ضير في ذلك البتة)، والموضة كصناعة متن تبتلع رموز الهوامش وتهضمها لتعيد إنتاجها في قوالبها هي، القوالب فائضة الجنسانية، والممهورة بدمغة "هذا جميل" أياً كان ما يحتويه القالب (ولا حُكم قيمة هنا بل مجرد توصيف).

وحليمة آدن (21 عاماً)، التي هربت مع عائلتها من الحرب في الصومال، وأقامت كطفلة في مخيم للاجئين في كينيا، وانتهى بها الحظ في أميركا، كانت أيضاً أول محجبة تشارك في مسابقة جمال أميركية العام 2016، وسارت على المدرج في "أسبوع نيويورك للموضة"، وظهرت في أغلفة مجلات عالمية من قبيل "فوغ" و"إيل"، بل وفي الإعلان الخاص بماركة مساحيق التجميل التي أطلقتها المغنية ريهانا مؤخراً. وهي، منذ تموز 2018، سفيرة لليونيسف.

تروي، في إحدى المقابلات، كيف أنها لاحظت الجهد الذي يبذله اختصاصيو الماكياج، قبل كل جلسة تصوير لها، لمماثلة لون بشرتها، فتحدثت في الموضوع مع شارون شوتر، صاحبة إحدى ماركات مساحيق التجميل، التي فُتنت بفكرة الماكياج الخاص بـ"الملونات" وأطلقت ماركة جديدة باسم "أوما" (والكلمة تعني جميلة بلُغة جنوب شرقي نيجيريا حيث صوّرت إعلانات منتجها الجديد). مجدداً، حليمة تفتح باب سوق جديدة.

والمُلهِمة هذه، هي ملكة جمال "المرة الأولى" على ما يُستشفّ من الحفاوة التي يحيطها بها الإعلام الأميركي والعالمي.. وهي بالطبع حفاوة مشروطة، والشرط مُضمَر. تعيه جيداً حليمة، التي تختلط طبيعياً بالرجال، وتخاطب أنظار الملايين عبر عدسات الكاميرات، وتضم شفتيها في ما يشبه القُبلة، وتتخذ تلك الوضعيات المثيرة على الشاطئ، وينحسر ثوبها عن فخذها المشدود ببنطال البوركيني اللاصق. وفي إعلان أحمر الشفاه اللمّاع "فينتي" لا تختلف نظرة عينيها كثيراً عن نظرة ريهانا نفسها وسائر العارضات بثياب الصيف الكاشفة، وتقول في حوار صحافي إن "الفتيات المحجبات يجب أن يحظين بنساء يتطلّعن إليهن كمُثُل عليا في كل الصناعات"، في إشارة إلى أنها واحدة من تلك النماذج النسائية، ولعلها كذلك بالفعل.. كعارضة أزياء إفريقية أميركية تلتزم زياً فولكلورياً رائجاً هذه السنة.

تدرك حليمة أنها دلوعة الصناعة اليوم، بالضبط لأنها المسلمة من دون الإسلام، المحجبة من دون إيديولوجيا الحجاب، الملوّنة من دون مظلومية الملوّنات. وهذا، لها وللسيستم، عادل كفاية.. طالما أننا لا نشتري فكرة "الوجه الآخر للإسلام"، إلى أن يأتي يوم وتطغى الكذبة الحلوة على وجه الحقيقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها