الجمعة 2020/12/11

آخر تحديث: 17:40 (بيروت)

العرب يموّلون تقلبات السياسة الأميركية

الجمعة 2020/12/11
العرب يموّلون تقلبات السياسة الأميركية
© Getty
increase حجم الخط decrease
ينتظر العالم الإدارة الأميركية الجديدة وسياساتها، مع انتقال الإمرة إلى الرئيس الجديد، جو بايدن، الذي يظهر عزماً مبكراً، على مخالفة سياسة سلفه دونالد ترامب، في مفاصل مهمة منها. لكن بين إعلان العزم السياسي، من قبل المسؤول الأميركي الأول، وبين الوقائع المصلحية العنيدة، التي تؤمن استمراريتها "الإدارة الأميركية العميقة"، تتبدل نوايا كثيرة، وتدوّر زوايا عديدة، وتبتكر "نظريات" تسوِّغ ما هو قائم، وتشرح مدى التبديل الذي يجب أن يصيبه، أو حدود التعديل الضرورية التي يجب أن يخضع لها.
أميركا وإيران
تحتل إيران البند الأول على مفكرة السياسة الأميركية، ارتباطاً بملفها النووي، هذا الذي جعله الرئيس أوباما درّة إنجازاته، عندما حاز توقيع "الخصم الإيراني"، وعندما أوقف العمل به، الرئيس ترامب، وجعله نقطة ارتكاز سياسته الهجومية العالمية.
انطلاقاً من القراءة الاسترجاعية لظروف توقيع الاتفاق، ولعناصر الانسحاب منه، يجب القول إن سياسة الإدارتين الأميركيتين، الديمقراطية والجمهورية، تتحملان مجتمعتين المسؤولية الأولى عن السماح بتمدد النفوذ الإيراني، في العراق وأفغانستان، وفي اليمن وسوريا ولبنان، ففي كل هذه البلاد، كانت إيران "حليفاً موضوعياً"، للسياسة الأميركية التي استهدفت الأكثرية العربية، من خلال جعلها أكثرية مذهبية سنية أولاً، ومن خلال شيطنتها بالجملة، عندما جعلتها منتجاً وحاضناً للإرهاب العالمي. لقد واءم التصنيف الأميركي، السياسة الأميركية الإيرانية التي توسّلت المذهبية كسلاح لانتشارها، وكمادة لتثبيت نفوذها، بين من يشبهها مذهبياً، فيقول قولها سياسياً. الخلاصة من السياسة الأميركية كانت إعلان هجوم "أممي"، ضد "الأممية الإسلامية" الإرهابية، والخلاصة من السياسة الإيرانية كانت، إعلان "أممية مذهبية" في ثوبٍ إسلامي فضفاض، ضد ذات الأممية المذهبية المستهدفة أميركياً.
وعلى ذات السياق السياسي الأميركي، لم يتجاوز التهديد الذي كان يوجه إلى إيران، حدود مطلب تعديل سلوك النظام، وليس تغييره. لقد حمل التهديد هذا دائماً، عنصر طمأنينة للنظام الحاكم في إيران، وترك له المجال فسيحاً، ليبادل الإدارة الأميركية لعبة شدّ الحبال، ولعبة عضّ الأصابع، وفي مضماري اللعبتين، كانت الأثمان تدفع من أرواح المواطنين العرب، ومن استقرار بلدانهم، ومن خزائن ثرواتهم. الخلاصة المشتركة التي تجمع بين سياستي أميركا وإيران هي: منع الاستقرار في الديار العربية، ومن مدخل هزّ الاستقرار، تبقى الدول المستهدفة موضوعاً للابتزاز السياسي والجغرافي والديمغرافي والمالي، مما يجعل من هذه البلاد ملحقاً وتابعاً، يقرَّر مصيره الأخير على طاولة التفاوض الإقليمي، الذي يجلس إليها أكثر من شريك ظاهر، ويقف خلفها أكثر من شريك مستتر.
أميركا وتركيا
تتحرك تركيا كشريك واضح في تقرير مصير خريطة توزيع النفوذ في "الإقليم"، وتتبع سياسات نشطة تخالف بعض جوانب سياسات حلفائها القدامى، وترسل رسائل ذات معانٍ عديدة، إلى من يمكن أن تختارهم كأصدقاء جددٍ.
لا ترضي السياسة التركية تماماً، حليفها الأميركي، وتصل إلى حدود تلامس التوتر مع شركائها في حلف الناتو، خاصةً الأوروبيين منهم، وتقترب من السير على "حافة السقوط" عن الحبل المشدود، مع الروسي الذي يقترب منها في مكان، ويميِّز سياساته عنها في مكان آخر، هذا لأن الروسي يسير هو الآخر على خط "سيرك" مفرد، ويخشى السقوط على أرض إدارة الظهر للأميركي، أو وضع السقوط في أحضان الطامح التركي، أو السقوط في وهده الجفاء مع المنافس الإيراني. هذه "النقزة" تتحكم بالسياسة التركية، حيث الميادين مشتركة، وحيث الشريك والمنافس المتربِّص، يدير كل منهم سياساته التركية، متسلحاً بالحذر اللازم، وبالتحرك المتوازن، و"بالتقية" المقصودة.
معاينة السياسة الأميركية حيال تركيا، تظهر بوضوح اختلاف المعايير التي يعتمدها المسؤول الأميركي حيال كل من حليفته الأطلسية، وحيال إيران، التي يصنفها كخصم إقليمي، وكمسؤول عن جانبٍ من الأعمال الإرهابية. المعايير تظهر تناقضاً، إذا ما قيست على التصنيف الأميركي لكل من تركيا وإيران، فالسياسة حيال الحليف المفترض، الذي هو التركي، تقوم على طلب ضبطه وتحجيمه، وعلى دعوته إلى الالتزام بموجبات انتمائه الأطلسي، هذا من دون الأخذ في الاعتبار، أن الموجبات الأطلسية جرى العبث بها من قبل السياسي الأميركي قبل غيره، وحيال أوروبا مجتمعة التي تشكل المجموعة الأهم على إحدى ضفتي الأطلسي.
في مقابل المشاغبة على التركي مباشرة، شاغبت السياسة الأميركية على الإيراني بالواسطة، فذهبت إلى ميادين نفوذه بدلاً من أن تذهب إلى قواعد ارتكازه الداخلية، هكذا استهدفت شعوب وبلدان كبدل عن "ضائع"، مع أن الضائع أميركياً، معروف عالمياً، ويشار إليه بالبنان. خلاصة الأمر، أن السياسة الأميركية، وهي تعيد قصّ وتفصيل وخياطة الأدوار الإقليمية، ما زالت توجه "االرعاية" الأعلى "لعدوها"، وما زالت تستهدف "بالتنبيه" الأعلى، شريكها المفترض في المواجهة التي تخوضها. لماذا هذا؟ وهل في الأمر تخبط سياسي أميركي؟ 
الأقرب إلى الواقع القول، إن أميركا إذ تفعل ذلك، فإنها تبني نصها السياسي المفترض، على النص السياسي الوظيفي الواقعي، الذي تريده لكل من تركيا وإيران، وعلى دور كل منهما الذي يقيم على تماس مع المنطقة العربية من جهة، ومع أفغانستان، وآسيا الوسطى من جهة أخرى، وهذا ما يلخصّه القول باستراتيجية الولايات المتحدة الأميركية العالمية، التي لا تغمض عينها عن موسكو، عندما تخاطف أنقرة، ولا تشيح ببصرها عن بكين، وهي تكثر الحديث عن طهران.
أميركا والمنطقة العربية
مما تقدَّم، لا يخفى أن المستهدف بالخسارة هو "العربي" قبل غيره، ومما هو معلوم، أن البلاد العربية عاشت وتعيش، في أجواء كارثية جراء هذا الاستهداف، ومما هو غريب وغير مألوف، أن الهجوم الأميركي هذا مغلَّف بعناوين الصداقة، والتحالف ضد الإرهاب، والرؤى المستقبلية المشتركة، والتعاون على صعيد دولي عام!!
المبادرة إلى تحديد الاستهداف، وبالإسم وبالسياسة، يطرح على "العرب" عموماً، وعلى الخليج العربي ومصر خصوصاً، التنبُّه لما قد تكون عليه "منوعات" السياسة الأميركية في ظل رئاسة جو بايدن، ولما قد يستمر من "الترامبية" فيها، خاصةً في ميدان الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الميدان الإيراني. لن يكون مفارقاً للواقع القول، إن دول الخليج ومصر، ستظل مطالبة بتسهيل السياسة الأميركية، فيكون التطبيع المتوالي مع إسرائيل على حساب المصالح العربية عموماً، وعلى حساب القضية الفلسطينية خصوصاً. كذلك سيكون الطرفان مطالبين، بعدم عرقلة سبل الاتفاق مع إيران، من خلال إحياء الاتفاق النووي القديم، أو من خلال اعتماده معدَّلاً. إلى ذلك، فإن دول الخليج سيُلقى على عاتقها "واجب" دفع المال اللازم على كل جبهات التقدم الأميركي، في "هجومه" الهادئ الجديد، مثلما كان مطلوباً منها التغطية المالية، عندما كان الهجوم الأميركي صاخباً في السابق.
لعلَّ من أولى المهمات التي تواجه العرب عموماً، هي المبادرة إلى وضع حدّ للخلافات البينية، أو تأجيلها على الأقل، والمبادرة إلى إعادة صياغة أسس عمل عربي مشترك، لتشكيل درع وقاية من التبدُّلات المرتقبة، بحيث إذا لم يفلح الدرع في صد كل الأخطار، فليكن قادراً، أقلِّه، على الحدّ من تداعياتها.
يتبدَّل العالم سريعاً، وعندما يجري قطار الزمن، لا يمكن التخلف طويلاً في قاعات الانتظار.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها