اللعب مع الحديد

روجيه عوطة
الجمعة   2016/07/22
بمواظبتي على "لعب الحديد"، تبدد إبتلائي بنفسي
بعد توطئة سلسلة "لنلعب"، والحلقة الأولى منها عن كتاب "لعب العرب" لأحمد تيمور باشا، والثانية عن اللوتو، والثالثة عن الحرب البلاستيكية، والرابعة عن "بوكيمون غو"،  هنا، الحلقة الخامسة عن اللياقة البدنية كلعب مع الحديد في النادي، وهي تتألف من شهادة جاءت على لسان أحد الأصدقاء، الذين يواظبون منذ سنوات على رياضتهم هذه.


منذ ثلاثة أعوام تقريباً، وقعت في وضع حاد للغاية، وهو لم يصبني بألمٍ خالص، بل اعتراني على شكل غم وضجر دائمين. البعض من الصحب قالوا لي أني مكتئب، وربما كانوا على حق يومها، لكن ما كنت أحس به، ظهر لي فظاً وثقيلاً. إذ حين كنت أعود من عملي، يبدو لي كأني لم أذهب إليه، وحين كنت أقصد المقهى، أرجع إلى المنزل، وفي خُلقي، أن كل فعل، أقوم به، وكل مكان، أتوجه إليه، وكل شخص، أصادفه، لا يترك فيَّ سوى السأم والبَرم. فجأةً، بدأت أتنبه إلى كوني مليئاً بالطاقة، إنما لا طاقة لي عليها! يا له من وضع: طاقتك تستولي عليك، لكنك، بلا طاقة على تصريفها. انه الابتلاء بالنفس!

ولما كنت في هذا المشهد، الذي صار يدور على روتينٍ، كاد يطيحني، أخبرتني إحدى صديقاتي بأنه ربما يتوجب عليّ ممارسة الرياضة، فبذلك، وبحسبها، "أتسلى"، كما أنني "أملأ وقتي" بنشاط  مغاير. لم أكن سميناً، ولا نحيلاً، لكني لم أواظب، في أي يوم من الأيام، على التريض، إلا من خلال السباحة، التي عند مزاولتي لها، لا أنشغل بكونها مجموعة من التمارين. استهوتني نصيحة صديقتي، وفي الأساس، يستهويني كل ما تقوله، ولهذا، حملت نفسي الى السوق، وابتعت ثياباً رياضية، وفي اليوم التالي، توجهت الى احد النوادي، الذي يقع بالقرب من مكان عملي، تسجلت فيه، وباشرت "لعب الحديد".

الساعة الاولى، التي قضيتها في هذا النادي، انهكتني. قادني المدرب، وكان اسمه جان، من آلة الى آلة، ومن حركة الى اخرى. قال لي: "لكي تتفادى التعضيل بالتقسيط، عليك به بالجملة". وبالفعل، لم اترك تمريناً الا وأدّيته، بدءاً بالصدر، ووصولاً الى الرجلين، وفي اثر ذلك، وفي حين كنت أمرّن ظهري، انتابتني دوخة شديدة، وسرعان ما جعلتني أرمي الأثقال من يدي، وأهرع الى الحمام. هناك، جلست على كرسي بين المتمرنين، الذين يتجهزون لمغادرة النادي، فتناولت من احدهم عبوة مياه، وشربتها كلها. لكنني، عطشت أكثر، وفي الوقت عينه، شعرت بأن جسدي ضعيف، كأنه خال من داخله، فاحتكاكه العنيف والمباغت بالحديد، كشف عن كونه خاوياً. ظهر الفراغ فيه، ومعه، ارتج، واضطرب، وما عدت متمكناً من الامساك به على الإطلاق. جلست لدقائق على الكرسي، ثم، وقفت، ونظرت في المرآة، كان لوجهي لوناً أصفر يميل الى الأسود. ذعرت، وعندها، عجلت خطاي، وانصرفت.

ترك اليوم الأول أثره فيَّ، فمع أن الدوخة توقفت، غير أني أحسست بتغير في جسدي، كأنه بان على حاله، أي فارغاً، وبالفعل نفسه، استيقظت في صباح اليوم التالي متعضلاً. لا يمكنني ان أحرك ذراعي، وعندما اسير، أتأرجح، لذلك، لبثت في المنزل، واستلقيت امام التلفاز. كان جسدي حينها منقبضاً، وكل عضلة منه منكمشة على نفسها. كأن كل ذلك الحديد، الذي حملته في المساء الفائت، انتقل الى داخلي، سكن بدني، أو أنه كان كامناً فيَّ، ونتيجة الجهد الذي بذلته في كل حركة من الحركات، طلع وتسرب الى عظمي وعضلاتي. انقبض جسدي أمام فراغه، الذي يحتاج الآن الى مزاولة عبر العاب كل قطعة من قطعي البدنية بالإصقال والجلي.

لم تكن آلات النادي في حالة جيدة، لكني، رغم ذلك، استطعت ان أمدّ علاقة معها، بحيث لاحظت تفضيلي لبعض منها على البعض الآخر. مثلاً، أحب تلك الآلة المؤلفة من الكابلات والبكرات، اذ اقف في المنتصف بين جهتيها، وأشد سلكاً من هنا، وسلكاً من هناك، وأبدأ بإغلاق كتفي وصدري وفتحهما. اعتقد ان هذه الآلة هي اكثر الاَلات متعةً، وأكثرها راحةً للعضلات ايضاً، بحيث انها تلعّب الجسد من دون ان تلتصق به، بل إنها تفصله عن حديدها بمسافة معينة. أما الأقراص الفولاذية، فعلاقتي بها متفاوتة، أحب "الدمبل"، الذي يأخذ حجماً متوسطاً، فمع كثافة التمرين، بدأت افتتح أي جولة من جولاتي التدريبية برفعه وتحريك عضلاتي به.

وهذا الفعل يدعى "التحمية"، فأنت لا تقدر على اللعب بلا ان تحمي جسدك، مهيئاً اياه للتفاعل مع الحديد، الذي، وفي اثره ثقله وقوته، يمسك بفراغ البدن، ويشحنه. فاللعب يسمح للحديد بتعبئة هذا الفراغ افقياً وليس عمودياً، كأن العضل يشتد من الميمنة الى الميسرة، والعكس طبعاً، وعندما "يأخذ محله"، على ما ينطق لسان المتمرنين، ينتقل كل جزء منه الى النمو.

لكي يأخذ العضل، وفي اثر اللعب مع الحديد، محله، على حرارته ان ترتفع. فخلال التمرين، كنت اشعر بأن عضلاتي تحترق، وبعد التمرين، بأنها تُشدّ. ونتيجة ذلك، ثمة جسم براني يذوب، اذ تبدأ شحومك بالذوبان وجلدك بالترهل قبل الانكماش. يذوب جسمك، ويبرز بدنك من تحته، وبالتالي، تصقل جسدك، الذي، وحين يذهب من "تلعيب" عضلة الى اخرى،  يوفر حركة كثيفة لنفسه.

فالآلات تعطيه الحركة، وهو يسلم لحديدها العضل، وعلى هذا النحو، يبدو اللعب مع معدات النادي بمثابة الحصول على كل حركتك منها، واعطائها عضلاتك من دون أن تطحنها أو تضخمها. أحياناً، لا تدور هذه اللعبة سوى بمساعدة دواء او حقنات، تمدك بالنشاط، وتنفخ العضل، وكلما ازداد استعمال هذه الوسائل، تفقد اللعبة شروطها. فأنت، عندها، تحتال على الآلة وعلى جسدك، وهما قد يحتالان عليك، لدرجة "تنفيس" بدنك. معلومة تلك الأجسام، التي لما تفرط في نفخ عضلها، لا في إبرازها فقط، سرعان ما تخسر شكلها، وحين يتوقف صاحبها عن الاعتناء المسرف بها، تتقلص وتنزوي، تاركةً الجلد، الذي يلفها، منفرجاً وفضفاضاً.

هذا ما يتقاطع مع بغية التنافس بين المتمرنين، الذي يتزاحمون أمام مرايا النادي، ويستعرضون بروزهم العضلي. ولأني كنت لا أنافس أحداً غير ذاتي، ولا ألعب بالحديد سوى معها، فلم أجد مكاني بينهم، بحيث أن عضلي لم يتقسم ويبرز على منوال أي منهم، بل أنه أخذ محله، وبان على انشداده فقط. فتلك العبارة، التي قالها لي المدرب ذات مرة، أي "أعطي لجسدك وقته"، نفذتها برمتها، كي يستطيع جسدي أن يتشيد على طريقته، بتماسك ومتانة.

بمواظبتي على "لعب الحديد"، تبدد إبتلائي بنفسي، ذلك أني باشرت صرف طاقتي، التي تتطلع من مسام جلدي، ومن رئتي أيضاً. فعليك، وأنت تؤدي حركاتك، أن تتنفس جيداً، فهذا يجعل جسدك حياً، مثلما أنه يتيح لعضلاتك التمدد في أي حيز من فراغك البدني. طبعاً، ما أقوله لا ينفي الطعم المستستاغ لأول سيجارة بعد الإنتهاء من اللعب. لا أخفي أنني، وكل مرة، أذهب فيها إلى النادي، أشعر بثقل البدء وبخفة النهاية، لكني، بينهما، لا أهجس في حركاتي، ولا في الإعياء الناتج عنها. كأني أغمض عيني، وألعب، وكأني حين ألمس الحديد، أعلم أن جسدي يلتحم. هكذا أشفيه من ذاتي، وأروح إليه.