الجمعة 2016/07/08

آخر تحديث: 09:53 (بيروت)

لعبة الحرب البلاستيكية

الجمعة 2016/07/08
لعبة الحرب البلاستيكية
ليست الحرب البلاستيكية هي التي توصل إلى الأذى، بل إن الإخلال بها يحقق ذلك
increase حجم الخط decrease
من الألعاب التي راجت منذ سنوات في لبنان، والتي غالباً ما يمارسها الأولاد مع حلول العيد، لعبة الحرب البلاستيكية. إذ يحتشد المحتفلون الصغار في الدكاكين والمحلات، ويبتاعون أسلحتهم المصنوعة من البلاستيك، والمقتربة بأشكالها من البنادق والمسدسات الفعلية، لكنها، تستعيض عن طلقاتها النارية بالخرز الملون. تنتشر هذه الأسلحة بين أيدي الأولاد، الذين يتوزعون في الشوارع على فرق ومجموعات وفرادى، قبل أن تندلع مواقعهم، التي يتواجهون في أثنائها. هم، على إثر ذلك، أرهاط من المقاتلين والمتقاتلين، الذين يصنعون جواً آخر للعيد، ويحولونه إلى حومة ووغى، من دون أن يتقصدوا شقلبته رأساً على عقب، فبحسبهم، لا تتعارض حربهم مع المناسبة السارة، بل إنها تقولها على طرقها.

محو غبطة بأخرى
في حين تنقل الراشدين بين منازلهم، وتبادلهم المعايدات، تشتعل خارج بيوتهم، في الأحياء والطرقات، رحى الحرب، التي يخوضها الأولاد. تالياً، يظهر التجاور بين عالمين، من جهة، عالم الزيارات، ومن جهة أخرى، عالم المعارك. الأول، يؤدي سكانه مشهد الغبطة، وخلاله، يقدمون العطايا المالية للصغار، الذين يسرعون إلى شراء الأسلحة، وينطلقون إلى الثاني، حيث يدخلون مشهداً آخر قوامه الإشتباك. لا يعني هذا أن ذهابهم من الإجتماع إلى اللعب يفضي إلى نفي الغبطة، التي كانت تعتريهم، بل، على العكس، يبقون عليها، لكنهم، يغيرون موضعها. 
فإذا كانت، خلال الزيارة، تلحق بهم نتيجة ارتدائهم الثياب الجديدة، وتناولهم العيدية، فخلال الإقتتال، يشعرون بها نتيجة علاقتهم مع قانون الحرب. إذ إنهم يتنازعون، ويطلقون الخرز على بعضهم البعض، لكن نزاعهم محكوم بقانون محدد، يفيد بأنهم مهما بالغوا في تحاربهم، لن يفضي ذلك إلى موتهم. وعلى هذا النحو، في مقدور كل واحد منهم أن يحضر في مشهد اللعبة مع غيره، أو بالأحرى ضده، مطمئناً إلى أنه، في المطاف الأخير، لن يموت.

تضحي غبطة الصغار إحساساً قائماً بعلاقتهم مع حربهم، وذلك بعدما كانت صادرة عن علاقتهم بالراشدين، الذين، وعبر العيديات، يحاولون الإقامة في وجدانهم، وجعله مرتبطاً بهم. كما لو أن الأولاد لما يذهبون إلى لعبتهم، يحاولون التخلص من هذا الإرتباط، بحيث إنهم، الآن في استطاعتهم أن ينتجوا غبطتهم بدونه. يمحون الغبطة، التي أعطاها الأهل لهم، بغبطة أخرى، لا يمكنهم الشعور بها سوى عبر التحارب. فالغبطة الأهلية، مسكونة بالدَّيْن، الذي لا بد أن يردوه، أما الغبطة الحربية، فليست موضوع سداد، بل إنهم يصلون إليها بلعب دور المقاتلين الذين، ومهما اشتد الإشتباك بينهم، ما عليه أن يرديهم جرحى، أي شبيهين بالقتلى.

إنتصار مذيب
لكن اللاعبين قد يتعرضون للأذية الجسدية، بحيث إن أحدهم يطلق "أعيرة" الخرز على غيره، ويصيبه في عينه مثلاً، وبذلك، يخل بالحرب، وينهيها. فهو عندما يلحق الضرر بلاعب آخر، يختزل اللعبة في غايةٍ معينة، وهي الإنتصار، كما أنه يغير علاقته مع قانونها، بحيث لا يغتبط بالإلتزام به، بل بتعديه، أي بإضرار آخره. وهكذا، يصبح إلحاقه المكروه برفاقه في اللعبة هو مبعث فرحه. فليست الحرب البلاستيكية هي التي توصل إلى الأذى، بل إن الإخلال بها يحقق ذلك، فهي لا تلحق الضرر بخائضيها، بل بغية إنهائها كفيلة بهذا الأمر، وكلما "سقط" مصابون فيها، هذا يعني أنها انتهت أو أنها، في الأساس، لم تبدأ.

عندما يتعدى اللاعب قانون اللعبة، ملحقاً الأذى بغيره، ينصرف منها عبر توقيفها، وعلى هذا المنوال، يعود من عالم المعارك إلى عالم الزيارات، من عالمه إلى عالم أهله. كأنه، بهذا الفعل، يستبدل غبطة لعبه بالغبطة التي وفروها له، والتي يكمن الدَّين فيها، وها هو، في إنهاء الحرب، يريد أن يسده. فلما يصيب اللاعب غيره بطلقة الخرز، ويؤذيه، يعتقد أنه حقق غلبته، لكنه في هذه الحالة، يكون الدَّيْن قد تفوق عليه، مثلما يكون ذنبه قد هزمه. وبهذا، يذوب البلاستيك، بوصفه مادة اللعبة، ويحل الحديد مكانه، في اعتباره مادة المضاد لها.

من المعلوم أن متاجر الألعاب بدأت توفر للأطفال أسلحة مصنوعة من الحديد بدل البلاستيك، وبذلك، فقدت هذه الأسلحة هيئة لعبتها، لتصير مطابقة للأسلحة التي يحملها الراشدون في اقتتالهم الفعلي. ومن هنا، يضحى حاملها في العيد أقرب إلى عالم أهله، لا سيما أنها ثقيلة، وبالتالي، تشده إليهم أكثر. فعندما يستعمل السلاح الحديدي خلال اللعبة، يبدو كأنه دخلها على سبيل إيقافها، ودفعها إلى إنتاج الحرب الفعلية، التي غالباً ما تكون سابقة عليها، وبفعل تطابقها معها، تصبح لاحقة بها. فالذي يعطل لعبة الحرب يسعى إلى أن تستحيل مسرحاً لحربين، واحدة ماضية، وثانية، مقبلة، وكلتاهما متماثلتان. 

حظر الإفلات
لا تصير لعبة الحرب البلاستيكية نسخةً عن الحرب الحديدية سوى عندما يختزلها لاعبوها، تماماً كأهلهم، بنتائجها، ويجعلون من الغلبة غايتها، أو عندما تنتشر بين أيديهم الأسلحة الحديدية، والمجهزة بضوء اللايزر الذي يستخدمونه لتحديد آخريهم كأهداف. فيعمدون، عبر إلحاق الضرر ببعضهم البعض، إلى إيقاف لعبتهم من أجل أن يرجعوا جنوداً في حرب الراشدين، الذين يقيمون في وجدانهم. ومع كل مشهد من مشاهد تلك اللعبة، يظهر خطاب حيالها، اختصاره:  هؤلاء الأولاد يتحضرون للحرب، ويتدربون عليها، وهذا أمر خطير، ويحتاج إلى "مراقبة الأهل" و"الدولة". طبعاً، هذا الخطاب ينطلق من التطابق بين لعبة الحرب والحرب ذاتها، وذلك، بعد اختزال الأخيرة بالإنتصار والخسارة، بالإضرار والتضرر، كما أنه ينطلق من تصور شائع عن الأطفال، بوصفهم "ملائكة" و"أبرياء" ولا يفطنون خطر "فعلتهم" اللعبية. وعلى هذا الأساس، يشجع على تحريم لعبتهم، وإمعان الأهل في صد أولادهم عنها، وإمعان "دولتهم" في ضبط الأسلحة، وتحريم بيعها وابتياعها.

بديهية الإشارة هنا إلى أن هذا الخطاب يبغي إيقاف اللعبة، وبالتالي، هو يتقاطع مع فعل ممارسها، الذي ينهيها عبر التسديد على غيره. فلعبة الحرب، وعلى عكس ما يحسب الناطقون بذلك الخطاب، ليست تدريباً للأولاد على حرب الكبار، بل أنها إفلات لهم منها، لكنهم حين يؤذون بعضهم البعض خلالها، يؤدي فعلهم إلى وقفها، وعودتهم إلى ما قبلها، وهذا، بالتوازي مع انشدادهم إلى أهلهم. بالتالي، لا تتماثل حرب اللعبة مع حرب الراشدين سوى نتيجة حظرها وكبحها، وحث الأهل على اعادة لاعبيهم من عالم المعارك إلى عالم الزيارات، حيث يحصلون على الغبطة مقابل إحساسهم بالدين اتجاه ذويهم.

تقع لعبة الحرب البلاستيكية بين العيدية والأذية، بين الذهاب إلى الإجتماع الراشد والرجوع إليه، وهي، في محلها هذا، يعرضها لاعبوها لأفخاخ عدة، على إثرها، يتعرضون للمخاطر في أثنائها. من تلك الأفخاخ، ربط ممارستها بالإنتصار والهزيمة، إنتاج الغبطة عبر تعدي قانونها، لا عبر الإلتزام به، جعلها مساحةً للتطابق مع تصور الأهل عنها، باعتبارها تقليداً لاقتتالهم، وليست إفلاتاً منه. وأخيراً، الإطاحة ببلاستيكيتها، واستبداله بالحديد. فهذه اللعبة تحاكي الحرب كي تتحرر منها، وتحولها إلى صراع، لكن، كلما صارت المحاكاة ضرباً من ضروب المطابقة، تضحي عرضة للإتلاف، وتنتهي بممارسيها على جبهات وحواجز جاهزة ومفروضة عليهم. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها