الأربعاء 2022/09/21

آخر تحديث: 15:32 (بيروت)

عن معرض يكافح اعماله بتعرية أجساد زواره

الأربعاء 2022/09/21
increase حجم الخط decrease
نظم متحف "مايول"  في باريس معرضاً بعنوان "الواقعية الفائقة: هذا ليس بجسد"، وقد عرض فيه اعمالاً قديمة وجديدة لعدد من الفنانين الذين ينتمون الى ما سمي في سبعينات القرن المنصرم بتيار "الواقعية الفائقة". ينظر هذا التيار الى العمل الفني على اساس ألا بد له ان يكون اميناً لموضوعه في حين نقله له من واقعيته الى تمثيله. هكذا، ينحت باشيسكي وجه "الانسان العادي" بطريقة دقيقة للغاية، كما ينحت مارك سجان العناق بين امرأة ورجل بالطريقة نفسها: كما لو ان ذلك الوجه او ذلك العناق، مطابقان لما هما عليه فعلياً، تمثيلهما يحايث واقعيتهما، بل "يفوقها". فالغالب من اعمال المعرض، واقعي اكثر من الواقع نفسه، اي ان تمثيلها يكاد يحل مكانه، يمتصه، ويجعله استمراراً له. ما أدى الى ما يشبه، وبشكل مفارق، إلى رد فعل على هذه الاعمال من قبل منظمي معرضها.


زاركو باشيسكي، وجه "انسان عادي"
أضاف المنظمون على عنوان المعرض جملة مؤلفة بالانطلاق من اقتباس جملة رينيه ماغريت الشهيرة، "هذا ليس غليوناً"، والتي تصير "هذا ليس جسداً". بالتالي، بدت هذه الجملة انها تريد التشديد على كون الاعمال التجسيدية التي يحويها المعرض ليست أجساداً، وهذا، كما لو أن المتفرج عليها قد ينخدع بها، ويعتبرها حية. لكن، بالطبع، ليس هذا المتفرج هو المقصود بتلك الجملة، بمعنى انها ليست متوجهة إليه، انما هي متوجهة الى الاعمال ذاتها، بحيث أن تفوقها على الواقع من ناحية تمثيلها يجعلها أجساداً، او اكثر من اجساد، أي أنها تمثل الأجساد إلى درجة أخذ مكانها بالكامل. في النتيجة، تلك الجملة تكافح اثر هذه الاعمال، تسعى الى دحره، لكنها لا تستطيع ذلك. فالمعركة بين المعرض وأعماله محسومة لهذه الاخيرة، إذ إن مجرد الالتفات إليها يبدي انها تفوقت على أي واقعية، اجتاحتها، جعلت الحد الذي يفصلها عنها بلا أي قيمة، فالواقع ضئيل امام واقعيتها الفائقة، ثم ان التنبيه الى كون تفوقها هذا ليس سوى تمثيل، هو تنبيه لا قيمة له. انها اعمال -وبرطانة كلاسيكية لا مناص منها- تسرق واقعية موضوعاتها، واقعية اجسادها، تتغلب عليها، وتبينها بلا اي وزن، وكل هذا، باسم التمثيل. فهي لا تحتاج الى أي واقع لتكون واقعية، ولكي تفرط في واقعيتها.

لكن المعركة بين المعرض واعماله لا تتوقف عند استخدام جملة ماغريت، والاشارة الى كون الاجساد المعروضة ليست أجساداً. فمسعى المعرض الى تخجيل الاعمال من جهة كونها تقوم بالتمثيل، أي جعلها تخجل بكونها منحوتات، ليست سوى مسعى باطل، بل انه يزيد من اهمية هذه الاعمال، بحيث انها، ومن دون ان تكون اجساداً، هي كذلك. في اثر هذا، ينقلب التخجيل على مزاوله: ليست الاعمال التي عليها أن تخجل لأنها ليست باجساد، إنما الاجساد لأنها ليست واقعية كفاية اسوة بهذه الاعمال! 


سام جنكز، امرأة وطفل

انقلاب الخجل هذا على مزاوله أدى إلى أمر معين، وهو: دعوة المعرض لزواره ان يتجولوا بين الأعمال عراة، اي بـ"طبيعانية" جسدية تامة. بهذا، يستند المعرض إلى الزوار، إلى اجسادهم، الى عريها لكي يدحر الاعمال وتفوقها. فالعري، بحسب المعرض، هو الذي سيصنع الفارق في المعركة ضد الاعمال، هو الذي سيخفف من واقعية هذه المنحوتات، سيسحبها منها، سيرجع تمثيلها إلى حده خلف اي واقع. المعرض يعول على العريّ إذن، يلعب ورقة "الطبيعانية" ضد "الواقعية الفائقة"، الا أنها، وعلى الارجح، ورقة خاسرة جدا، فالتعري بين تلك الاعمال، يبدو انخراطاً للزوار فيها، في مجالها: تعرٍّ من الواقع وانتقال من جنّته إلى أرض التمثيل المطلق! 

فعليا، حين يواجه المعرض أعماله بأجساد زواره، بتعريتها، يظهر كما لو أنه يأخذ هؤلاء الزوار دروعاً بشرية، اي أنه يُقدم على خطفهم. وهذا، لمجرد أنه اقدم على استقبال وحش، يدعى "الواقعية الفائقة"، وقد انفلت ضده فأطاحه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها