الجمعة 2016/07/15

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

"بوكيمون غو": تحرير الوحوش من جيوب الراهن

الجمعة 2016/07/15
"بوكيمون غو": تحرير الوحوش من جيوب الراهن
كلما كانت الطريدة متوارية، يضحى تتبعها وصيدها شديدين أكثر
increase حجم الخط decrease
بعد توطئة سلسلة "لنلعب"، والحلقة الأولى منها عن كتاب "لعب العرب" لأحمد تيمور باشا، والثانية عن اللوتو، والثالثة عن الحرب البلاستيكية، هنا، الحلقة الرابعة عن "بوكيمون غو".


ما إن يحمل المستخدم "بوكيمون غو"، التي أطلقتها "Nintendo" قبل مدة وجيزة، على هاتفه حتى يتحول إلى لاعبٍ، من شروط ممارسة وجوده، التحرك في مكانه، ومطاردة شارميليون وفينوسور وسكويرل وميتابود وراتيكات إلخ. واصطياد وحوش الجيب هذه. على هذا النحو، لا مناص له من الدخول إلى دنيا أخرى تتطابق مع دنياه، وفي الوقت نفسه، تفترق عنها، ذلك أنها مرتع وميدان البوكيمون، التي لكي تظهر إزاء اللاعب وحوله، عليه أن يحدق في شاشة جواله، الفارغة سوى مما تبينه عدسته.

لطالما كانت تلك الشاشة لوحة، تظهر الصور، التي تسجلها الكاميرا عليها، إلا أنها، وفي نتيجة اللعبة، صارت باباً للعبور من عالم إلى ثانِ، وهما ليسا "الحقيقي" و"الإفتراضي"، بل الممكن والإفتراضي. العالمان مترابطان للغاية، بحيث أن الثاني هو صناعة في الأول، فحين تقتفي الكاميرا الممكن إلتقاطه، وتأطيره، وعرضه، تترك "بوكيمون غو" أثرها فيه، وتغيره من مُصَوَرِ إلى ملعوب. وعلى هذا النحو، تتحول الشاشة من صفيحة لواح الممكن تسجيله، أي المرأى، إلى صفيحة لواح المفترض ملاحقته، أي وحش الجيب. مع العلم أن الفعلين هنا غير منفصلين، بحيث أن المُسجَل هو نطاق المُلاحَق فيه، فالشاشة تعرض الإثنين سويةً، ترصفهما، وتنضدهما، كأنهما فوق بعضهما البعض، وداخل بعضهما البعض أيضاً، وبدونها، لا وجود لهما.

تبدل اللعبة العلاقة بين العالمين الممكن والمفترض، مثلما تغير علاقتهما بالعالم الراهن. فحين ينظر اللاعب إلى الشاشة يشاهد المصور مع الملعوب، وفي الوقت عينه، يتقدم في خارجهما  لكي يطارد ويصطاد الوحوش. بالتالي، العالم الراهن يقع بين الممكن والمفترض، وفيه، يدور اللعب على حركة ممارسه، الذي ينتقل من موضع إلى آخر، متقصياً البوكيمون. والأخيرة، وعلى الرغم من التفتيش عنها في العالم الراهن، غير أنها ليست حاضرة فيه، وغيابها هذا لا يخفف من وطأتها، أو يزيل تأثيرها، بل، على العكس تماماً، لا سيما أنها موضوع قنص وأخذ. فكلما كانت الطريدة متوارية، يضحى تتبعها وصيدها شديدين أكثر. ذلك أن الصياد، لا يريدها، بل يريد ممارسة الملاحقة. وهذا ما يحيل إلى باسكال، الذي حين كتب عن الصيادين، قال إنهم حين يركضون وراء الحيوانات، فهذا ليس لأنهم يرغبون فيها تحديداً، بل لأنهم يرغبون في الصيد كمذهب وجود وحركة، يجعلهم، يخرجون من سكونهم، ويصدرون جلبة، تبدد سأمهم من ذواتهم.

تُحدِث الكاميرا العالم الممكن، وتُحدِث "بوكيمون غو" العالم المفترض، بوصفه صناعة في الممكن وتمتيناً للممكن. واللاعب يذهب منهما نحو العالم الراهن، وذلك، على وقع تفعيلهما من خلال ممارسته الواقعية، اي حركة المطاردة. فهو لا ينتقل من المتخيل الى الواقع، بل من المفترض الى الراهن على أساس واقعي. غردت احدى لاعبات Pokémon go في "تويتر" بأن "هذه اللعبة جعتلني اكتشف آلية جديدة لمواجهة اكتئابي وقلقي، لأنها تحثني، وبطريقة ممتعة على ترك سريري". لا تتكلم اللاعبة عن مبارحتها لوضعها من خلال اصطياد وحش من وحوش الجيب، وإصابته بطابة البوكيبول، بل عبر المطاردة والتطواف، اللذين يحملاها الى الترويح عن النفس، وانقشاع الكآبة والقلق عنها. فالاستمتاع باللعبة ينتجه السير من لواح المفترض على الشاشة الى الرواح خلف وحوشه خارجها.

يقع اللعب "البوكيمون" في حركة المطاردة، التي يمارسها اللاعب. وبالاستناد اليها، لا تعود كاميرا هاتفه تلتقط الممكن فقط، بل المفترض معه، ولا تعمد عدستها الى تثبيت الراهن قدامها، بل انها تلاحق المفترض فيه. فاللاعب يتحرك لترهين المفترض انطلاقاً من الملاحقة، التي ينتجها اختباء البوكيمون وبيانهم على بغتةٍ منه. وربما، هذه هي الحركة، هذه هي ممارسة الواقع: سحب الوحوش اللامرئية من جيوب الحاضر، ومنازلتها بمسرةٍ وغبطة. فالترويح عن النفس هو، في جانب منه، رواح خلف الوحوش.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها