الجمعة 2016/06/24

آخر تحديث: 11:52 (بيروت)

"لعب العرب": مؤلِّف اللغة والأرض والبدن

الجمعة 2016/06/24
"لعب العرب": مؤلِّف اللغة والأرض والبدن
"لعبة شعبية بحرينية" لنجاح مدني
increase حجم الخط decrease
بعد توطئة سلسلة "لنلعب"، هنا، الحلقة الاولى منها عن كتاب احمد تيمور باشا، المعنون "لعب العرب".

"لمن الزحلوقة زل بها العينان تنهل
ينادي الآخر الأل ألا حلوا آلا حلوا" (امرؤ القيس)

كالطفل، الذي حين يصل الى ساحةٍ ما، ولا يجد أحداً من رفاقه، ليلعب معهم، يقف أحمد تيمور باشا في كتابه، رافعاً صوته، ومتلفظاً بـ"عرعار". فالعرعرة، بحسبه، هي الدعوة الى اللعب والإحتشاد في المكان من أجله. "هلموا الى العرعرة"، يقول تيمور باشا، جامعاً في مؤلفه أسماء اللعب وأنواعه عند العرب، وذلك، على تقسيم أبجدي، من الألف الى الياء. فقد أعطى اللعب لغته، بيّنها، وأظهرها على قاموسها، أي الكلمات التي درجت في الأيام العربية الغابرة قبل اشتقاق اخرى منها.

كأن اللعب هو معمل اللغة، ولما ينتجها لا يجعلها تستوي على ثبات أو إطلاق، خصوصاً أنها تقوم به. هذا ما يَصب في سياق ما كتبه أميل بنفينسيت مرةً: اللعب هو بنية اللغة. وربما، لهذا السبب، لا وجود لشيء اسمه "لعب على الكلام"، لأن الكلام أيضاً بمثابة لعب مع اللغة بقصد القول.

يذكر تيمور باشا لعبةً، كان خلالها الأطفال يرددون اسمها، أي "دحندح"، ولما كانوا يُسألون عن معناها، يجيبون: "لا شيء"، فهي لا تشير الى شيء، وليست علامة على شيء. اخترعوا هذه الـ"دحندح"، ولم يربطوها بدلالة، كأنهم شقوا لغتهم، وتركوا خلاءً فيها، وها هي لعبتهم تقتضي منهم تشكيله في كلمة على أساس معاودتها اللفظية، ومن ينطق بها جيداً يفوز، ومن يفعل العكس، يخسر. الـ"دحندح" لعبة بدء المعنى، الذي عرّفه لويس يلسملاف بأنه ما لا قالب له أو هيكل، إنه الفراغ، والسبيل الاول اليه هو اللامعنى والتفوه به.

على أن اللغة ليست الملعب الوحيد، بل إن الأرض تحتل حصةً من أرجاء اللعب، بحيث أن الكثير من الألعاب تتمحور حولها، لا سيما على أساس حفرها، ودفن شيئاً ما فيها. تدور تلك الألعاب حول التفتيش والإيجاد والإنتشال، كما في "الأنبوثة"، فضلاً عن تخطيط الأرض، وتجويرها، ورمي الأحجار فيها، كما في "المقابلة". هذا، وقد يحل التراب مادة للعب، فـ"العقفة" هي لعبة جمعه، و"البقيرى" هي لعبة تخبئته وتوزيعه بين الأيدي. ثمة علاقة بين اللعب من جهة، والأرض، بترابها وجوفها، من جهة أخرى، وهذه العلاقة تستوي على تغيير الأشياء الملعوب بها، من أحجار وثمار وغيرها، إلى ما يشبه الموتى المطمورين، ومحاولة الإتصال بهم، أو سحبهم من مواضعهم. وقد تكون "حي بن موت" اللعبة الأكثر إيضاحاً لهذه العلاقة، ففي أثنائها كان اللاعب يحاكي الميت، يلبس ثوبه، وينزل في الرمل، كأنه مقبور، وعندها يجتمع رفاقه فوقه، وينادونه:"حي ابن موت، حي إبن موت"، وذلك، إلى أن يرد عليهم.

يستحضر تيمور باشا عدداً من ألعاب البدن، التي يمارسها اللاعبون بالشد والضرب، عدا عن الدوران، الذي يبدو كأنه حركتها الشائعة. تماماً كما في "الدحجلة"، و"الدركلة"، و"الدعكسة"، وكلها ضروب من الرقص الدائري، بالإضافة إلى "الدارة"، وهي أن يقعد اللاعب القرفصاء، ويقعد آخر يجعل ظهره في ظهره، وعند ذلك، يدور اللاعبون حولهما يضربونهما، فإذا أمسكا واحداً منهم، يجلس مكانهما. ومن الملاحظ أن تلك الألعاب إذا لم تحل بذاتها، تحل في نهاية كل لعبة، كجزاء للخاسر، أي أنه غالباً ما عليه إعلان خسارته عبر جسده وإلعابه. في "عظم وضاح"، يرمي اللاعبون عظماً أبيض في ظلمة الليل، ثم ينقسمون إلى فريقين، ذاهبين في البحث عنه، وبحسب الجاحظ، لما يجد فريق ما العظم، يركب أعضاؤه الفريق الآخر من الموضع الذي يجدون العظم فيه إلى الموضع الذي رموه منه. تالياً، تقع الألعاب البدنية في نهاية الألعاب الأخرى، أو تقوم بنفسها، كما في "التضرفط"، وهي أن يركب اللاعب أحداً، ويخرج رجليه من تحت ابطيه، أو في "العميضاء"، حيث يُغطى رأس واحد من اللاعبين، ثم يُلطم، ويُقال له: من لطمك؟ فإذا أجاب وأصاب، يأخذ اللاطم محله.

لا يكتفي الأطفال باللعب مع الأرض، أو بأبدانهم، بل يخلقون ألعاباً من مواد بعينها، كالخشب والقماش والخيوط والحصى. فـ"اللوثة"، أو "الكجة"، هي أخذ خرقة وجعلها كروية الشكل كطابةٍ، و"الخطرة"، هي لف المنديل للضرب به، أما "الخذروف" فهو شيء يدوّره اللاعب بخيط في يديه، في حين أن "الخرارة" هي توثيق عويد بخيط وتحريكه. وهذه الألعاب التصنيعية، تتسم بأصواتها، بحيث أنها تصدر دوياً، أو حفيفاً، أو طنيناً، تفيد الدوران، كما في لعبة "الدوامة"، التي اتفق اللسان العربي على تسمية صوتها بـ"الحنين"، أي أن الأخير هو صوت الدوران حول النفس بعد أن يُقطع الخيط الذي كانت معلقة به. وقد يستبدل اللاعبون مواد ألعابهم وعناصرها بأسمائهم أو صفاتهم، بحيث أنهم يتزاحمون على تقليد بعضهم البعض. يقف لاعب أمام لاعب آخر، ويبدأ بالتماثل معه بالحركة والكلام، وهذه اللعبة اسمها "المواغدة"، أما، اذا تبادلا الأسماء، فيصير اسمها "الفاعوس"، في الأولى، "يفعل فيها اللاعب كفعل صاحبه"، وفي الثانية، يتسمى باسمه، وفي الحالتين، يحاكيه، ليضحى نسخة "ملعوبة" عنه.

يشير تيمور باشا إلى أن اللعب يتعدى مادته الأساس، أكان التراب أو البدن، إلى كل العناصر، من لغةٍ وصوتٍ وصورة، التي تستحيل من منتجات قواعده. فغالباً ما تحظى اللعبة بعباراتها الخاصة، كـ"ألا حلوا ألا حلوا"، التي تعني في لعبة "الدوادة"، وهي نفسها الأرجوحة، خففوا من عددكم حتى نساويكم في التعديل على الخشبة المتزحلقة. أما، بالنسبة إلى الصورة، فهي تُعد ركيزة لعبة "الضب"، التي جاء في تعريفها: "تصوير الضب في الأرض، ثم يحول واحد من الفريقين وجهه، ثم يضع بعضهم يده على شيء من الضب، فيقول الذي يحول وجهه: أنف الضب، عين الضب... وإن أخطأ ما وضع عليه يده، ركبه أصحابه، وإن أصاب صار هو السائل". عليه، من الممكن القول أن هذه اللعبة تقوم بالتخييل الشامل، الذي يتمحور حول التصوير، بوصفه استعاضة عن موضوعه بآخر، أي عن الضب بلاعب ما يقلده، وثاني يسأل عنه، وثالث يجيب به.  

على ما بوَّب وجمع احمد تيمور باشا، يظهر "اللعب عند العرب" كأنه إراحة للنفس وتمرين لها، وذلك، انطلاقاً من اختلاف أنماطه، التي تستند الى الحظ والمخاطرة والسحر والحيونة واللهو باللغة، وغيرها. الا ان هذه الأنماط تعرضت للمنع الديني، الذي مورس بحقها، لا سيما حيال الرهان والمغامرة، قبل ان يُحصر اللعب في الاطفال وتربيتهم، ويُربط بالإعداد للجهاد، فإما ان يكون اللعب على هذا الوضع، او يُعطف إقصاؤه على آية من سورة التوبة (٦٥):"ولئن سألتهم ليقولن إنما كنّا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كُنتُم تستهزئون". فلا وجود، بعد ذلك، لصلة بين اللعب والخلق، بل انه اضحى طريقاً الى الخطيئة، التي لا شك في انها ضد كل لعب ولعبة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها