الجمعة 2016/06/17

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

"لِنلعَب".. توطئة سلسلة

الجمعة 2016/06/17
"لِنلعَب".. توطئة سلسلة
اللاعب بمقدوره أن يصير طفلاً، وبذلك يشتهي الحياة
increase حجم الخط decrease
ثمة في اللغة اليديشية عبارة Ribitzer، وتعني ذلك الشخص، الذي يتفرج على لعبة بين اثنتين وأكثر، معلقاً عليها، من دون أن يدخل إليها. وغالباً ما يترك الـRibitzer أثره في مسار اللعبة، بحيث أنه يصف جريانها، مثلما يحفز خائضيها على مواصلتها حتى انتهائها بهم إلى الكف عنها أو معاودتها من جديد. بالتالي، الـRibitzer هو معقب اللعبة، وبالفعل نفسه، هو متعقبها، إذ يضيف إليها كلامه، الذي ينتجه في مآلها، وبذلك، يلاحقها، متمنياً تأجيل خاتمتها إن لم تنطو على نفاد أركان دورانها.

الغاية من سلسلة "لنلعب"، التي تنطلق على وقع توطئتها، هي أن تحل أمام موضوعها ومشاهده، أي اللعب، مثل Ribitzer، وأن تتحول، مع الحلقات، التي ستتوالى منها، إلى لاعبة معه. وقليلٌ جداً هو انشغالها باحتمال ربحها أو خسارتها في إزائه، بل إنها تكترث لدوامه. فأهمّ ما في اللعب، على قول آلان كاييه، هو الإحاطة بتناغم إيقاعه، ما يجعله مستمراً ودؤوباً، كالرقص أو الحب. على هذا النحو، ستحاول هذه السلسلة أن تلعب مع اللعب نفسه، على بعضٍ من أنواعه، وعلى بعضِ من ظهوره، عبر ألعاب بعينها أو من دونها.

فمن الممكن للعب أن يكون بمثابة ممارسةً سابقة على لعبتها، قبل أن تصنعها، وتصنع قواعدها، ثم تمد علاقة معها، سندها الإحساسي هو الجذل. ومن الممكن للعب أن ينبسط حتى يبرز، ولو لفظياً، في أفعال ومزاولات لا تمت له بصلة، كما لو أنه وضع محدد: فراغ بين جسمين مترابطين، يؤدي إلى تعطل تمفصلهما، يلخبط تشغيلهما، لكنه، وفي الوقت نفسه، يبدو شرط حركتهما، التي لا يكفلها سوى إرخاء الوُصلة بينهما. كأن آلة اللعب تستخلص الفراغ في نطاقٍ ما، وتجعله محركاً له.

لقد أمسك ر.كايوا بمقياس اللعب، معرفاً إياه بأنه نشاط حر، مُدَبَر، منفصل عن الزمن والفضاء العامين، غير منتج، وتخييلي. من هنا، قد يصح تفسير العداء للعب، والإعتقاد الشائع عنه، بوصفه مضيعة وقت، وسلوكاً إهمالياً، ولا فائدة تُرجى منه، بحيث أنه في مقابل أي مجتمع، وبحسب فيليب موراي، هو الآخر. لذلك، من المتوقع أن يكون مكروهاً، ومضبوطاً، ومقصياً، إذ انه ينتظم على لامبالاة بأي انتظام اجتماعي مغلق على ذواته المتنازعة، والمرهوبة، والمهجوسة بالسيطرة على كل الدائر في مُعاشها. فهي عاجزة عن فهم قوام اللعب، الذي وزعه كايوا نفسه على أربع خاصيات، أي التنافس، واللواح، والمصادفة، والدوخة.

فهذا القوام مختلف عن قوام تلك الذوات، بحيث أن تنافسها تضاربي وتنابذي، ولواحها موصد ولا شيء خلفه، كما أنها لا قدرة لها على المصادفة، بل تفرط في التصور والتصميم، مثلما لا تتمكن من الدوخة، لأنها موسوسة بالتحكم والتسيد. بالتالي، في حال لعبت، فهي تلعب كي تربح أو تخسر فقط، وغالباً ما تلجأ إلى الغش كما لو أنها في امتحان. وإذا أخذنا بجوسلين غابوا، التي رأت أن اللعب يضعنا على اتصال بموتانا، قد يصح الإستخلاص بأن الذوات المعادية له هي ذوات لا تتصل بموتاها، لأنها تعتقلهم فيها، فتمتنع عن تحريرهم، وتُميتهم مرة أخرى. وهذه الذوات تواظب على تمثيل تصور سلطتها عن الرشد، ولهذا السبب، تجد في ممارس اللعب طفلاً، أو حيواناً، وتعمد إلى تسخيفه، وتذنيبه، وتعريضه إلى كافة أشكال الضغط الخطابي. 

على أن الطفل، وكما كتب بول فاليري، هو أكثر واقعية من الراشد، لأنه يقع في اللعب على غايته الوحيدة، فيسير إلى تحقيقها عبر وجوده، وهكذا يبلغ ماهية الحياة. ثم، أن الحيوان، وبحسب بيوتر كروبتكين، ليس منقطعاً عن اللعب، بل العكس، إذ أنه يلعب على سبيل الإجتماع. اللاعب بمقدوره أن يصير طفلاً، وبذلك، يشتهي الحياة، مثلما بمقدوره أن يعطي معنى آخر لتلك الآية المدهشة في سورة العنكبوت (64): "وما هذه الحياة الدنيا سوى لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون". فبلعبه، يؤسس تلك "الدار" في "الدنيا"، وذلك "الحيوان" فيه، فلا ينتظر ذهابه إلى الآخرة لكي يلتقي الحياة، بل يأتي بها إليه. اللاعب يفلت حيوان الآخرة في دنياه، مبتكراً علاقة مبهجة معه، فلا الأول يقضي على الثاني، ولا الثاني ينقض على الأول.

اللعب هو توازن مع النفس، وليس إفتراء عليها باسم "الجدية"، إنه حمد وارتياح إليها، مثلما أنه رهان على بناء ذاتها، وثقافتها، ولغتها. فالثقافة، وبالإنطلاق من يوهان هوتسينغا، موجودة في اللعب أيضاً. ثمة، في التراث العربي، لعبة الثقاف، وهي آلة من خشب تسوى بها الرماح، والمثاقفة، على ما تورد العربية وتُغني، هي "اللعب بالسلاح". والأخير، قد يكون اللغة، تماماً، كما في لعبة أخرى، أي الـ"دِحِنْدح"، وتعريفها هو "لعبة يجتمع الأطفال لها، فيقولونها، فمن أخطأ قام على رجل واحدة، وحجل سبع مرات".

كيف نلعب؟ كيف يجري القضاء على اللعب بلعبٍ آخر؟ ما هي عباراته؟ ماذا عن المراكز المخصصة له، كمدن الملاهي، وعن أشكاله وأنواعه،  الرياضية والإلكترونية وغيرها من إجراءات لا ملعب لها بالضرورة؟ هذه هي بعض استفهامات لسلسلة "فلنلعب"، والتي، قبل أن تشرع فيها، ستحاول خلال الحلقة المقبلة تقديم قراءة في كتاب "لعب العرب"، الذي ألفه أحمد تيمور باشا، ثم، تنتقل إلى غيره. والآن، جملة من ألكسندر كوجيف: "طوبى لهؤلاء الذين يلعبون البريدج، ليس لديهم سوى ذلك ليفعلوه، فكل ما هو جدي انقضى تقريباً، أو أنه في سبيله إلى الإنقضاء".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها