الجمعة 2016/08/12

آخر تحديث: 14:12 (بيروت)

ملاسنة اللعب

الجمعة 2016/08/12
ملاسنة اللعب
لا تلعب بالنار
increase حجم الخط decrease

بعد توطئة سلسلة "لنلعب"، والحلقة الأولى منها عن كتاب "لعب العرب" لأحمد تيمور باشا، والثانية عن اللوتو، والثالثة عن الحرب البلاستيكية، والرابعة عن "بوكيمون غو"،  والخامسة عن اللياقة البدنية كلعب مع الحديد في النادي، والسادسة عن مدينة الملاهي، و السابعة، عن لعبة حرق السماء، التي اخترعها أطفال حلب، تحية إليهم، هنا، الحلقة الثامنة عن اللعب في بعض عبارات اللسان العام.


لا ينحصر اللعب بممارساته، بل قد يظهر بدون ألعابه، كما هي حاله في اللسان العام، الذي يستعمله كعبارة من أجل الكلام عن فعل أو موقف. فيحضر اللعب في هذا اللسان بلا أن تكون معالمه واضحة، بحيث يظل مجرداً من قوائمه، ليحصل على محل ومعنى آخرين له، غالباً ما يفيد التصور الشائع عنه، باعتباره ضياعاً، ورديف الخداع، فضلاً عن كونه سبيل إلى التلفيق، ومصدر الهزل.

ولذلك، يحل اللعب في الإجتماع، مأسوراً على يد ثقافته، التي تنظر إليه كعدو لها، تكفيها الإشارة إليه بغاية لجم مَن تعتقد بأنه يزاوله، فهو، بحسبها، يهدد قواعدها ومعاييرها، وعلى رأسها، الإنضباط في مكانها وزمانها، الإلتزام بالإنتاج والوثوق من مردوده، وبالتالي، الإبتعاد عن الإنصراف منها.

فمع أن اللعب، وعلى قول يوهان هيزينغا، هو "مسبك الثقافة"، أي لبابها وقالبها، غير أنها لا تستوي سوى بتصميمها على هجرانه إلى الجدية والتصلب، حتى يستحيل موضوع دحر ورذل. على هذا النحو، حين يأتي اللسان العام على استعمال اللعب في تكلمه، يبدو كأنه يحاول ردعه أو نبذه، من خلال جعله علامة سلب واستلاب.


"عم تلعب بالتلفون"

عندما يدور الحديث بين شخصين، ويذهب واحد منهما إلى النقر على هاتفه، مدردشاً مع "أصدقائه" عبر الواتسآب والفايسبوك وغيرهما، ينظر الثاني إليه، طالباً منه الكف عن "اللعب بالتلفون". فاللاعب هنا هو الذي يحيد عن موضوع الكلام، ويسرح بخاطره عن متابعته، متواصلاً مع غيره عبر شاشة الموبايل. يمضي من الحديث إلى التواصل، وبدل أن يكون فمه منطلق الكلام، يتفوه بإصبعه، مستعيضاً عن الحاضر أمامه بالغائب عنه. فلعبه هذا يقتضي منه مفارقة رجاء الحديث إلى رجاء آخر، هو ليس إفتراضي بقدر ما هو إمكاني، إذ بمقدوره أن يبلغه بلا أن يتنقل، معلناً انسحابه التام من المخاطبة الدائرة معه.

ينتاب الناطق بعبارة "توقف عن اللعب بالتلفون، ركز معي" ضرباً من التيه، إذ يلتبس أمر اللاعب عليه، ولا يعود متأكداً من حضوره في إزائه، فيستفهم منه إن كان "معه". كما أنه لا يستطيع الجزم في الحديث، إن كان قد انتهى أو لا، فمسانده شبه مفقودة، كأخذ الكلام ورده، تبادل التحديق في الوجه، الإستماع، والإنفعال. اللاعب مقابله لا ينوب عنه في الكلام، بل يتركه وحده داخله، وبلا أن يتيح له فرصة النطق به. يشعر الجالس بقرب اللاعب بأنه عالق في وحشة، لا يطيقها، وفي الوقت عينه، يشعر بأن الناقر على هاتفه، قد بارح الحديث معه، لأنه لم يهتدِ فيه إلى طريقه، أي أنه وجده مضجراً، ولا ضرورة له. نتيجة ذلك، يستنتج غير اللاعب أن الموبايل هو المسؤول عن تأزيم الحديث، وعن إبقائه وحيداً فيه، وهذا الاستنتاج ليس دقيقاً، لأن لا أحد ينصرف من الكلام سوى حين لا يقع فيه على موضع له، ولذا، يتجه إلى الدردشة.


"بيلعب على الحبلين"

يظن سامع عبارة "يلعب على الحبلين" ان المنعوت بها يمشي على حبلين متوازيين، غير انه سرعان ما ينتبه الى ان هذا المشهد لا يفيد معنى اللعب، كما يريده اللسان العام. فعلى الأغلب ان اللاعب على الحبلين، بوصفه منافقاً، هو الذي يتدخل في النزاع بين شخصين، ويؤدي دور الوسيط، لكنه، بدل ان يحل اشكالهما، يعمد الى تعقيد الوضع بينهما، واطالته. فإذا كان كل واحد منهما يحمل غيره مسؤولية نزاعهما، يبدو الاثنين كأنهما كل من ناحيته يتجاذبان حبل التوتر، وعلى هذا المنوال، يقع الوسيط بينهما، ليوقف فعلهما، اي شد الحبل.

الا انه بدل ان يدفعهما الى ترك الحبل، يحثهما على شده اكثر، متنقلاً من جهة الى اخرى، حيث يساعد المقيم فيها على سحب الرباط. وحتى لو قطع الحبل بين المتنازعين، يقسمه الى حبلين، ويربطهما بيديه، وهكذا، يتحكم بالجانبين، الذين لا ينتبهان الى انه الوحيد الذي لا يزال يحافظ على حبل التوتر بينهما. وهما، قد يجتمعان، بعد انتباهما الى ذلك، على انه "يتلاعب بهما". فلعبه في هذا السياق يجعلهما واقفين في مواجهة بعضهما البعض، وفي مواجهة الاشكال بينهما، أي واقع علاقتهما، التي يكشف اللاعب عن مكمنها من خلال تأزيمها اكثر، ولما لا يبغيان الوقوف على هذا المكمن، يجدان أن لعبه يساوي النفاق.


"ملعوبة"

توصف النكتة، اكانت مصورة او منطوقة، بأنها "ملعوبة". وفعلياً، النكتة الأكثر اضحاكاً هي النكتة التي يجري تأليفها بإلعاب عدد من العناصر، التي تجتمع على صلات مختلفة. فعلى سبيل المثال، هناك شخص، لا يتوقف عن استعمال الواتسآب، وحين مات والده، كتب له على شاهدة قبره، "آخر ظهور له في تاريخ كذا"، بدل "توفي في كذا". لا يظهر اللعب في هذه النكتة على تحديد اللسان العام،  أي على كونه تركيب غير معقول ومتخيل لحادثة ما، بل يظهر على أنه يقرب بين الظهور والوفاة، بين تطبيق واتسآب والدنيا. كما لو أن الميت هو الذي ما عاد مربوطاً بالإنترنت، ما عاد "online"، فدنياه كان عبارة عن شبكة، يتصل بها.


"لا تلعب بالنار"

عندما غنى راغب علامة "لا تلعب بالنار" (ألبوم ضوى الليل-1988)، كان يسدي نصيحة الى غيره بأن لا يقع في "مهوار"، وان "لا يخلي الهوى الغدار ييقطف زهرة ربيعـ"ه، فـ"اللي بيشتريك بيرجع ببيعك ". فهذه النصيحة تنطلق من كون الغير هش ولا دراية له بشأنه، ولأنه على هذه الحال، قد يودي اللعب به الى المتاعب وتهلكتها، فكل لعبة قد يقدم عليها هي لعبة مع النار، التي تهدده بالاحتراق. بالتالي، تنطوي تلك النصيحة على نظرة الى اللعب، في اعتباره السبيل الى الضلال والأذية. ولكي يوقف المطرب غيره عن الذهاب في هذا السبيل، يستعرض له قيمته: "انت فرحي وجنوني بكل الدهب ما بيعك".

فالناطق بهذه النصيحة على مسمع غيره، لا يطلب منه الا يكون موضوع شراء وبيع متداول، بل يريد منه ان يبقى حكراً عليه، اي هو الذي يشتريه ويرفض بيعه حتى انتهاء صلاحيته. صاحب عبارة "لا تلعب بالنار" يجد في ان اللعب يهدد احتكاره لغيره، استملاكه له، ولذلك، يسدي اليه نصيحته كأنها تهديد، يخبره أنه اذا لعب، سيصير غرض متداول، وفي الوقت عينه، يخبره انه اذا لم يلعب سيظل غرض محتكر، أي انه على وضع واحد في الحالتين. وبمعنى اخر، نصيحة "لا تلعب بالنار" هي أمر الغير بالتجمد من أجل زجره عن تحوله الى موقع اخر، وهذا الامر مؤلف بالتهديد من جهة، وبالوعيد من جهة ثانية، وبينهما، انباء بأن الغرض يبقى غرض، لكن، ان يكون محتكراً أفضل من تداوله.

العداء للعب بوصفه اقتراباً من النار، هو ردع لانصراف الغير من وضعه الى وضع ملائم لنفسه أكثر، وذلك، باعلان ان خطر ما سيحدق فيه. ثمة، من يرتدع، وثمة، من يلعب بالنار، لأن كل لعب هو إضرام وإيقاد، وفي الأساس، لا معنى للعب اذا لم يؤدي الى إشعال النار، ليس بممارسه، بل بذاته، وبكل ذات يابسة وجافة وخالية من الماء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها