الجمعة 2016/07/29

آخر تحديث: 13:53 (بيروت)

مدينة الملاهي: تعزية اللاعب بموته

الجمعة 2016/07/29
increase حجم الخط decrease
بعد توطئة سلسلة "لنلعب"، والحلقة الأولى منها عن كتاب "لعب العرب" لأحمد تيمور باشا، والثانية عن اللوتو، والثالثة عن الحرب البلاستيكية، والرابعة عن "بوكيمون غو"،  والخامسة عن اللياقة البدنية كلعب مع الحديد في النادي، هنا، الحلقة السادسة عن مدينة الملاهي.


كثيرة هي حوادث موت الأطفال داخل مدن الملاهي في لبنان. فخلال طلوعهم على الأفعوانية، أو على دولاب الهواء، يسقطون، أو تتوقف قلوبهم فجأةً عن الخفقان. وهذا ما يتصل بالمكان، الذي يزورونه، وغالباً بصحبة عائلاتهم أو المدرسة، وبمقصد الترفيه والتسلية. إذ يجمع المكان في ضوضائه صوتين وإحساسين، الضحك والصراخ، المرح والفزع، بالتالي، قد يتغلب صوت وإحساس على البقية، وعندها، تودي هذه الغلبة بأحد الزائرين إلى هلاكه.

فعلى التوازن أن يحضر بين الهأهأة والصياح، بين اللعب والخطر، وإلا سيكشف ذلك عن كون مدينتهما، ومعها معداتها، بمثابة مقبرة للداخلين إليها. فهؤلاء يبحثون عن "وقت حر"، وهو، لأنه ضئيل، يفضلون صرفه في رجاء التلهية القريب، بمعنى مجاورته لهم، وعلى سبيل متناول ومباشر، بمعنى استهلاكهم للراحة النشطة، التي ينتجها لهم. فيعطون مدينة الملاهي وقتهم ومالهم، وبدورها، تواسيهم بالإبتهاج المصنوع على وقع إحتمال التضرر.

نشرت إحدى الوكلات الصحافية ذات مرة صوراً لمدن الملاهي المهجورة في عدد من البلدان، وقد برزت فيها مقفرة ومزدانة، وبانت وحشتها ملونةً. الجمال في تلك المطارح المغلقة بالشمع الأحمر، بدا متوقفاً في لحظة بلية، ولما كان قد ألّفته أشكال وهياكل بلاستيكية وفولاذية متروكة للتحلل والصدء، صار مسكوناً بموت الذين لعبوا بها وفيها. كأن مدنه تخلصت من زائريها، أو بالأحرى التهمتهم، قبل أن تقفل أمام مماثليهم، معلنةً لهم أن وقتهم بمجمله للعمل، وحتى لو قضوا جزءاً منه فيها.

كتبت فيرونيك شيسنو عن مدينة الملاهي، واصفة ً إياها بـ"سوبرماركت الإستجمام"، ليس لأن الإستهلاك من قوائمها، بل لأنها أيضاً توفر الأمن، الذي يجعل زائرها مدركاً بأن لعبه لا يتعارض مع إنتاجه، بأن انصرافه المفترض من السوق لا يناقض عمل السوق ذاته. بالتالي، عندما يعطي الزائر "وقته المتحرر" من العمل لمدينة الملاهي، تحوله إلى وقت للإستهلاك المجبول بالخوف، أي أنها تناول اللاعب بهجة يولدها امكان موته الآمن. والأخير يظهر قريب المنال، وفي الحين نفسه، مؤجل: "أبهجك في وقتك الحر، وبالفعل إياه، أذكرك دائماً، وعبر تخويفك، بأن وقتك هذا سينتهي، وتعود إلى نقيضه، إلى وقت العمل".

لكن، كل هذا، لا ينفي جوانب اللعب في مدينة الملاهي، التي تفتح ابوابها للزائرين من اجل نقلهم الى مكان اخر. فمن خلال معداتها، تبني لهم عالماً بأبعاد وجهات متنوعة، فهو عمودي، ودائري، وأفقي، ولولبي، مثلما انه ديماسي أو تحت أرضي. وعند بلوغهم هذا العالم، تعتريهم دوخة دخوله، قبل ان تضعهم أمام الخطر، الذي يحدق فيهم على حسبان بانه لن يصيبهم. فهم يشعرون بأن الموت مقبل، لكنهم، ولأن مكانهم آمن، يخلطون صراخهم مع ضحكاتهم، وهلعهم مع فرحهم. وعندها، يكونون في خضم اللعب مع المكروه الذي لن ينزل بهم، وذلك، على اطمئنانهم بأنهم مهما مارسوا لعبتهم هذه لن تُزهَق اجسامهم. فهم في نجاة متواصل من الموت، لكنهم، لا يفعلون شيئا كي ينجوا منه، لأن مدينة الملاهي هي التي ترميهم في عالمها وتنقذهم منه على حد سواء. ذلك، قبل ان يخرجوا منها كما دخلوا، كأنهم استهلكوا اللعب أكثر مما لعبوا.

لا تميت مدن الملاهي لاعبيها، لأنها تريد إعادتهم إلى خارجها، فهؤلاء، الذين يحلون فيها كمستهلكين، كانوا، وقبل زيارتهم لها، منتجين. تالياً، عليها أن تحافظ عليهم وإلا سينتقلون فعلياً إلى دنيا غير دنياها، فتفقدهم، ومن أجل أن تتجنب ذلك، لا بد لها أن تسليهم بموتهم، بلا أن تتيح لهم بلوغه. ولنا، هنا، أن نتخيل، وبعد كل حادثة موت لاعب فيها، كيف تصل الشرطة إليها، وتغلقها، معاقبةً إياها، ليس على إماتته، بل على عدم إعادته إياه إلى سوق العمل ووقته: "طلبنا منكِ أن تلهيه بموته ليشعر بأنه لم يكن ميت من قبل، ولم نطلب منكِ الكشف عن موته بقتله". كأن اللاعب في مدينة الملاهي، الذين لا يسقط من ألعابها، هو مقاومها، هو الذي لم يسمح لها بأكله.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها