الأحد 2023/04/30

آخر تحديث: 18:56 (بيروت)

البطش باللاجئين يتفاقم ببعلبك-الهرمل.. وعائلات تفرّ إلى عكار والجبل

الأحد 2023/04/30
البطش باللاجئين يتفاقم ببعلبك-الهرمل.. وعائلات تفرّ إلى عكار والجبل
سُجلت في غضون الأيام القليلة الماضية عشرات الاعتداءات (الأرشيف، Getty)
increase حجم الخط decrease

في مثل هذا الشهر، منذ إثني عشر عامًا، سُجلت أولى محاولات قوات الأسد العلانيّة لقمع متظاهري الثورة السّورية في مختلف المناطق بقتل العشرات منهم، واعتقال المئات، وتشريد آلاف الأسر والأطفال، وتلطيخ ربيع سوريا بدماء شعبها.. منذ تلك اللحظة وإلى اليوم، وبعد سنوات من الموت والتهجير والتشرد، والهروب المستميت من بطش النظام وحلفائه من الميليشيات الإيرانية، ومن وحشية التنظيمات الإسلامية، ومن براميل الأسد وضراوة الطيران الروسيّ والتخوين والتمزق الأهلي.. يقف الشعب السّوري اليتيم والمتشظي في شتات الأرض اليوم، وجلّاً، خائفًا، هاربًا لا نصير له سوى الإحسان الدوليّ المشوب بخبث المصلحة الدبلوماسية والمشلول طوعًا، ورهطٌ من الغيارى الإنسانيين، العاجزين عن المساعدة قسرًا.

وفيما توالت على امتداد شهر نيسان الماضي، عشرات الأنباء عن الحملات العنصريّة الافتراضية وعلى أرض الواقع وحوادث العنف (التّي من الصعب إحصاؤها) وما أعقبها من شبه إجماع سياسيّ لبنانيّ وتحالف الأحزاب المتناحرة على الملف، الأمر الذي تجلّى بنيّة السّلطات اللبنانيّة الجامحة والملّحة لطرد واقتلاع كل ما هو سوري، أكان بالترهيب والاحتجاز والتخوين وقطع الأرزاق وصولاً للترحيل (راجع "المدن")، وإمعانها بتزكية شعبيّة، وصمت النظام السّوري المتوقع، في مفاقمة مذلة اللاجئ، وعوزه وفاقته وشتاته، وتلفيق الخدع العنصريّة التّي انسحب سواد اللبنانيين لتصديقها. خصوصاً في بعلبك-الهرمل، التي كان مسؤولوها في طليعة المحرضين وشطر لا يُستهان به من سكانها من أوائل المؤيدين والمساندين للحملات الأمنيّة.

اللاجئون في بعلبك -الهرمل
منذ نشره تغريدة (قبل حوالى الشهر ونيف) على تويتر مذيلةً بفيديو له يقول فيه "أنا محافظ وظيفتي هي أعلى وظيفة إدارية بالدولة، إلا أن راتبي أقلّ مما يحصل عليه النازح السّوري في لبنان".. في ردّه على منسق مخيمات "النازحين" في عرسال الذي طالب بزيادة التقديمات "للنازحين"، محمّلاً المحافظ مسؤولية أوضاعهم الصعبة، ومطالبًا إياه بالعمل على تحسينها.. تمكن محافظ بعلبك- الهرمل بشير خضر من إشعال فتيل الغضب الشعبي العارم تجاه اللاجئين السوريين وتأجيج الاحتقان الرسمي من هذا الملف، الذي أعيد فتحه اعتباطيًّا، ليهيمن منذ حينها مناخ عام ونزعة شعبية لمقارعة اللاجئين الذين يتلقون المساعدات الدوليّة والأموال بالفريش دولار، بينما يعجز غالبية اللبنانيين عن تأمين ضروريات العيش. وتسعير حملة تضليل للحقائق والمبالغة بالأرقام والإحصاءات من ثم زرع نوّاة التوتر الأمنيّ، لإيجاد عذرٍ مُحّل لكل انتهاكات السّلطات الأمنيّة بحق اللاجئين.

وفيما لم يتلكأ المسؤولون الرسميون طيلة الشهر الماضي، عن تسعير الحرب الأمنيّة والشعبيّة على اللاجئين، وفي مقدمتهم بشير خضر الذي سلك منهجًا معاديًا وبصورة علانية لهؤلاء، أكان ببياناته المتوالية أو حتّى بمنشوراته على وسائل التواصل الاجتماعي، بوصفهم الأكثرية في محافظة بعلبك – الهرمل (زعم بكون عددهم يناهز 315 ألف لاجئ في حين عدد اللبنانيين لا يتجاوز 250 ألفاً)، وحملاً ثقيلاً عليها، مهللاً للعمليات الامنيّة التّي تقودها مخابرات الجيش. وما لبث أن انفلت الخطاب العنصري من قالبه التقليدي في بعلبك- الهرمل ليأخذ منحى أكثر عنفًا. إذ أن اللاجئ السّوري الذي كان تاريخيًا التاجر والعامل والمزارع والقريب بات اليوم المنافس على لقمة العيش والمُدان بالخلل الأمنيّ والشلّل الاقتصادي، والمزاحم على فرص العمل.

اعتداءات لفظية وجسدية
وصار لوم اللاجئ والأجنبي وكرهه، الوسيلة الوحيدة لسواد السّكان لتبرير واقعهم المزري، وقد سُجلت في غضون الأيام القليلة الماضية عشرات الاعتداءات العنصرية على اللاجئين السّوريين (هذا عدا عن المداهمات والترحيلات)، بدأت بالسّخرية والتشاوف، وتطورت إلى اعتداءات لفظيّة وجسدية وتبليغ البلديات عن اللاجئين، والتّي بدورها حثت قوات الجيش اللبناني على مداهمتهم لترحيلهم. فيما انتشرت دعوات وحملات على وسائل التواصل تدعو إلى طرد اللاجئين من مساكنهم المؤجرة، ومنعهم من التّسوق في المحال التجارية وترحيلهم من البلدات والقرى البقاعية. وإن كانت بلدية بعلبك من أوائل البلديات التّي فرضت حظر تجول على اللاجئين من السّاعة السادسة عصرًا حتّى السادسة صباحًا، ذلك منذ حوالى الخمس سنوات، فمع تأجج الحملات لوحظ التضاؤل الاستثنائي للوجود السوري في الشوارع العمومية، إذ نزع غالبيتهم للركون في المساكن خشية التوقيف، فيما تمنع آخرون عن إرسال أطفالهم إلى المدارس، كي لا يتمّ ترحيل الأسر دون أطفالها كما جرى في مختلف المناطق اللبنانية، حسب ما أفادت مصادر "المدن" المطلعة.

المزاحمة على العمل!
ومُجاراةً للحملة الممتدة على عموم الأراضي اللبنانيّة، عَمد بعض أصحاب المشاريع الزراعية لطرد العمّال السوريين من وظائفهم، فيما قام البعض بتهديد العمّال بالجيش أو بالسّلاح لإجبارهم على العمل بالسّخرة إن جاز القول، هذا بحسب ما أشار ن. ي. (32 سنة، سوري) وهو واحدٌ من العمال الذين اضطر للهرب وأسرته من إحدى البلدات البعلبكية واللجوء إلى بيروت بعدما هددهم صاحب الأرض الزراعية بالقتل أو تبليغ مخابرات الجيش عنهم (بسبب دخولهم خلسة) إذا ما رفضوا العمل لديه مقابل 40 ألف ليرة فقط (أقل من نصف دولار) في النهار الواحد، قائلاً: "لست وحدي، أخي في بلدة القاع اضطر للهرب أيضًا مع أسرته بسبب التضييق عليهم من قبل رئيس البلدية، وسمعت أنه في قرى عدّة في الهرمل تكرر الأمر نفسه، حيث اضطر عدد من السوريين للهرب مع أسرهم إلى وادي خالد أو الجبل، وإلى بيروت على نحو نادر، خشية التوقيف. علمًا أنني لم أتمكن من حيازة أي أوراق رسمية بسبب دخولي خلسة ورفض المفوضية مساعدتي". 

بينما كانت حجة المناوئين للجوء السّوري في بعلبك - الهرمل هي مزاحمة اللاجئين لمواطني المحافظة على العمل، والتسبب ببطالتهم، إلا أن حقيقة استغلال السّلطة اللبنانية ممثلةً بمسؤولي المنطقة بسياساتها الاقتصادية الترقيعية لهؤلاء اللاجئين لسنوات بفوارق الأجور والعمالة "الرخيصة"، وخصوصاً في القطاعات الأساسية كالزراعة والصناعة والبناء، علمًا أن المحافظة هذه تحديدًا كانت ولا تزال تعتمد بصورة مباشرة على العمالة السّورية فيها، أكان بصورة موسمية أو دائمة، ما درّ أموالاً طائلة لقطاعاتها المتعثرة أساسًا. إذ عَمد غالبية البقاعيين، طيلة السنوات الماضية حتّى وما قبل "الأحداث" السّورية على استقدام العمّال والعاملات السوريين للعمل في مجالات الزراعة (أو حتّى جعلهم موظفين دائمين في أراضيهم). إذ أن العمل الزراعي هو على لائحة وزارة العمل التّي تتضمن المهن التّي يُسمح للأجانب وغير اللبنانيين مزاولتها (مع الفوارق الصارخة بالأجور).

الاستغلال التاريخي
هذا من دون التعريج على حقيقة أن غالبية مزارعي حشيشة الكيف والقنب يعمدون لتوظيف السّوريين بغيّة التهرب من التوقيف واستغلالاً لحاجة العامل للراتب الضئيل. بمعنى آخر، استفادت السّلطات اللبنانية طيلة السنوات الماضية من الوجود السّوري في أراضيها كعمالة "رخيصة" ومن ثم كلاجئين من مال الدعم الدوليّ. واليوم تتنصل هذه السّلطات ذاتها وخصوصاً مسؤولي محافظة بعلبك -الهرمل التّي عُرفت باستغلالها التاريخي لهذه العمالة في مضاعفة الإنتاج وتنافسيته في السوق اللبناني والتصدير.

وإن كان من المفاجئ في الحملة العنصرية الأخيرة، انضمام الأطراف التّي كانت في السّابق تقارع الخطاب العنصري تجاه اللاجئين خصوصًا في البقاع الشمالي المحكوم بصلة القرابة التاريخية مع سوريا (الزواج المختلط وغيرها)، وحتى في أوساط الجماعات التي تجاهر بعدائها للنظام السّوري في البقاع، والذين ذاقوا الويلات من عناصر حزب البعث من السبعينيات وصولاً لأواخر تسعينيات القرن الماضي، ليعودوا لتبني خطاب التيار الوطني الحرّ نفسه منذ بداية توافد اللاجئين إلى لبنان. الخطاب الذي اتسم بتطرفه لنبذ كُل ما له علاقة باللاجئين ومحاربتهم وتنغيص تواجدهم في لبنان ومضاعفة نكباتهم.

من النافل القول إن اللجوء السّوري يُشكل عبئاً ثقيلاً على كاهل دولة منهارة البُنى ومعدومة الموارد إلا أن الحلّ لا يمكن أبدًا في تحميل اللاجئ المنكوب مسؤولية هذا الوضع، أو ابتزاز المجتمع الدوليّ عبر قرارات حكومية أشبه ما تكون بالاستجداء والتسول على حساب اللبناني والسّوري. وتنبثق اليوم الحاجة الملّحة لمقاربة عقلانية وعملانية، تنطوي على خطة واضحة لحماية اللاجئين، وانتشال اللبنانيين من معاناتهم.. بدلاً من مراكمة الأذى والكراهية والتفرقة، من دون أي طائل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها