الخميس 2020/03/05

آخر تحديث: 18:22 (بيروت)

من الذي يسيء لمار شربل؟

الخميس 2020/03/05
من الذي يسيء لمار شربل؟
المروجون لمعجزات المقدسين هم الذين يسيئون إليهم (الإنترنت)
increase حجم الخط decrease

جاء مار شربل في المنام لسيدة لبنانية. أخبرها، دون غيرها، عن تركيبته الخاصة في شفاء المصابين بفيروس كورونا: أن تجلب تراباً من ضريحه وتغليه (جيداً؟) ثم تصفي الماء وتذهب به في قنينة محددة الصفات إلى مستشفى رفيق الحريري، لتسلمها إلى طبيب أراها صورة وجهه في المنام نفسه، كي تتعرف عليه ولا يقع التراب المغلي في اليد الخطأ.

الوصفة ليست جديدة. نصح بها مقدسون كثيرون وأحياناً آلهة. هي نفسها تتكرر دائما مع البشرية في علاقتها العتيقة والملتبسة مع التراب، عتق ظهورنا فوقه والمشي عليه منذ فترة لا بأس بها من عمر الكوكب. 

صحافي المعجزات
وكما نعلم، فإن الأحلام لها من القوة ما يجعلنا نصدق كل ما يحدث فيها من نشاطات غير منطقية، إلى أن نستيقظ من النوم. ولم يحدث بعد أن اختلفت رؤية نبي في الحلم عن رؤية مايكل جاكسون مثلاً. لا شيء يؤكد أن رؤية الأول تعني أنه جاء شخصياً إلى المنام، ورؤية الثاني مجرد حلم (أو كابوس في حالة جاكسون). كلاهما من الأحلام التي ما زالت صندوقاً أسود، على الرغم من أنها كانت سبباً في توريط جنسنا البشري الأخرق بما لا يحصى من خزعبلات راسخة منذ ظهورنا الميمون إياه.

وهكذا كان. لم تكذب المرأة حلماً. جلبت التراب، ووضعته مع الماء على النار في المختبر الكيميائي الوحيد الذي يملك كل واحد منا في بيته مختبراً مثله، ونسميه المطبخ.

وهكذا كان أيضاً أن السيدة ذهبت إلى المستشفى ورفض الشخص المتخصص باللقاحات المصنوعة من الأحلام ومن التراب المغلي بماء أن يأخذ القنينة منها، فتواصلت السيدة مع الزميل عبدو الحلو، المتخصص بدوره في نوع فريد من العلوم تقتصر على الذهول مباشرة على الهواء، بآخر المعجزات المسجلة علمياً لمار شربل.

شوربة "ماجي"
استنكر الحلو رفض الطبيب للعلاج واعتبره تقليلا في احترام القديس. فات الإعلامي أن يشكك في حلم السيدة نفسها. فلو أن القديس كان فعلاً يريد التدخل لانقاذ المصابين بالفيروس، لكان اتفق معها على خطة محكمة في المنام، واضعاً في الحسبان، ولو بنسبة ضئيلة، رفض الطبيب للماء المغلي، وشارحاً للإبنة المؤمنة الخطة باء. إلا إذا كانت الخطة باء المتفق عليها في جميع الأحلام التي ينزل إليها مار شربل، هي التواصل مباشرة مع عبدو الحلو بصفته صحافياً استقصائياً في عدم الشك بتاتاً بمعجزات القديس.

واقعة بطلاها لبنانية مجهولة ونجم تلفزيوني محلي، ليس فيها أي نقطة يمكن أن تفتتح نقاشاً. احتمال نقاش هادف وعميق في الإرشادات الثلاثة لصنع شوربة "ماجي"، يظل احتمالاً أكبر من نقاش شخصين في معجزة تراب مغلي على النار، مع أن تحضير المعجزة، كما تحضير الشوربة، يحتاج منك سيدتي (والكلام لظرف ماجي هنا) إلى ثلاث خطوات فقط.

من كورونا إلى المثلية
ليس، والحال هذه، إلا السخرية، كملاذ أخير في مقاومة البلاهة. والبلاهة اللبنانية غنية، تختلط فيها السياسة بالأيديولوجيا بالمعتقدات الدينية بالخرافات. لكن هذه البلاهة تعرف كيف تدافع عن نفسها. ليس تفصيلاً أن يقرر شربل خليل إطلاق مشروع مار شربل لمعالجة المثليين جنسياً، ثم يعتبر أن كل الذين وقعوا على الأرض ضحكاً عليه، إنما هم يضحكون من مار شربل. فجأة يتحول الساخرون من خليل والحلو وأشباههم، إلى متهمين بالمس بالمعتقدات المقدسة، وإلى ساخرين منها، يمكن حتى ملاحقتهم قضائياً، مع أن هؤلاء لم يسيئوا لمار شربل كقيمة دينية، بل مارسوا حريتهم في التهكم على منتجات القديس الطبية السحرية، التي يُستخدم فيها التراب والصلاة كعلاج للسرطان والصرع والشلل الرباعي والعمى، وصولاً إلى "مرض" المثلية.    

المتهكمون لا يسيئون لمار شربل. من يسيء إليه هو ذاك الذي يورط قديساً راحلاً في عمليات جراحية معقدة تجرى في الأحلام وتنجح، وتترك أحياناً أثراً مادياً على جسد المريض، مع أن خدمات القديس في مجال الطب الإعجازي، وهو الخطوة الأخيرة بعد عجز الطب العادي، يجب أن تكون خدمات تامة وليس منطقياً أن تترك مثلاً، شطباً طويلاً على العنق، لأن القديس لن يلجأ إلى الجراحة التقليدية في استئصال السرطان مستخدماً المشارط والمباضع. هذه جراحات تحدث في الأحلام، كوني، فتكون. يأمر القديس المرض الخبيث بأن يغادر فيهرع المسكين هارباً من الجسد.

المعجزة والبلاهة والترهيب
المسيئون الأصليون للمقدس، أي مقدس، هم أولئك الذين يربطونه بدائرة مصالحهم الدنيوية، والتي في جزء كبير مالية، لا يختلف فيها هنا مقام الحسين عن مزار مار شربل. وهم أنفسهم الذين يمارسون أقسى أنواع الترهيب بحق أي عادي قرر استعمال عقله كأداة تفكير. الترهيب هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الفكرة الضعيفة، هذا إذا كانت فكرة، فكيف إذا كانت معجزة؟ وهؤلاء أنفسهم، وجيش من بعدهم يهجمون بكل ما يقدرون عليه للدفاع عن القديس، برغم القدرات الخارقة للقديسين التي تسمح لهم بأن يدافعوا عن أنفسهم، إذا وجدوا غاية سماوية من ذلك.

ولمن ليس مضطراً لتبادل الخجل الاجتماعي المتعارف عليه لبنانياً بين الطوائف المتناحرة، فإن الترهيب هو العائق الوحيد الذي يمنعه من القول إن من البلاهة التامة والخالصة الاعتقاد بعمليات جراحية للسرطان تجرى في الأحلام، وبتراب مغلي مع صلوات يشفي من فيروس حصد أرواح الآلاف حتى الآن. الترهيب هو وحده ما يمنع من مصارحة المؤمنين بالمعجزات الطبية بأنهم وحدهم من يسيء لرموزهم، بتوريطهم في تفاصيل نوع سعالهم ودرجات حرارتهم وآلام أعناقهم وحناجرهم ومغص أطفالهم. هؤلاء الذين يطلبون مقابلاً لإيمانهم. لكن هؤلاء لا يلامون ليأسهم، ما داموا يحصرون العلاقة مع القديس داخل المعابد. لكن من يلام حقاً هم المستفيدون من هؤلاء، الذين ينفخون الروح في الخرافة، يدفعونها إلى الحيز العام ويضعون القديس نفسه موضع تداول، لا فرق فيهم بين الإعلامي أو السياسي أو رجل الدين، أو القانوني الذي يجد أن الإساءة من رمز ديني جريمة، بينما الاستخفاف بالعلوم التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، حرية شخصية. وحين يضحك من لا يصدق، يبكون: إلا قديسنا.

في ركوة القهوة
المروجون لمعجزات المقدسين هم الذين يسيئون إليهم، لكن الإساءة لا تؤذي الموتى. المروجون يسيئون، أول ما يسيئون، للمرضى أنفسهم وللأشخاص ذوي الحاجات الخاصة. لأنهم، بطريقة أو بأخرى، يقولون لهؤلاء أن السرطان والشلل الذي عجز العلم عن شفائه، سببه ما ورائي، وعلاجه لا يكون إلا بالماورائيات، وبالإيمان، وبالتطهر من الذنوب. والسماء في العادة لا تتدخل بشخصها لتصنع المعجزات إلا لتصحيح خطيئة بشرية. لكن السرطان كما الشلل ليسا من الخطايا. والقديس الحقيقي الذي لا يحتاج إلى اثبات قدسيته، هو الذي لا ينتقي شخصاً من آخر، بل يزور جميع مرضى السرطان في ليلة واحدة ويشفيهم جميعاً، وينهي آلامنا الخالدة من دون منة أو طلب باعتراف به دون غيره. من يرى في قديسه طبيب عائلته الروحية دون غيرها، هو الذي يسيء لقديسه.

لا دخل للقديسين في كل هذا. نحن نصنعهم ونحن نتبارز بهم. وللمستفيدين منهم، كما للمؤمنين حق الإيمان، وللآخرين الحق في السخرية من التفاهة التي تجعل تراباً مغلياً في ركوة قهوة علاجاً للفيروس الذي لم يستطع القضاء عليه إلى الآن حتى اليانسون المعد بأيادي الأمهات وقلوبهن، وهن قديسات الأرض الوحيدات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها