الإثنين 2024/04/15

آخر تحديث: 10:19 (بيروت)

الكسوف وقد حاول أن يصالحني مع أم كلثوم

الإثنين 2024/04/15
الكسوف وقد حاول أن يصالحني مع أم كلثوم
كسوف الشمس الكلي في 8 نيسان 2024 (غيتي)
increase حجم الخط decrease

الاعتراف المقبل لحظة رعونة فائقة، يدفعني إليها السيناريو الذي في ذهني لهذا النص، حيث أكمله كي أصل في النهاية إلى فحوى العنوان.
اعترف أنني لا أحب صوت أم كلثوم. ها أنا كتبت ما كتبت. حسين وزياد يعلمان هذا عني، يشفقان علي بالطبع، لكن، ولأنهما صديقان طيبان، يحاولان منذ زمن بعيد إنقاذي من نفسي، وينصحاني بمقاطع للست، ويخلصان دائماً إلى أنني أنا الخاسر، لكنهما لا ييأسان من المحاولة.
أنا أقول لهما أنني فعلاً الخاسر الوحيد في الجفاء المديد في علاقتنا، أنا والست. والأنكى أنه جفاء من طرف واحد فقط، طرفي. لكن ما باليد حيلة، فأنا لا أحب صوتها، خسارة إضافية على مجمل خساراتي التي لا تعوض وقد تصالحت معها واتفقنا، خساراتي وأنا، أننا سنعيش ونموت معاً، وما دائمٌ إلا وجه الله.
لا أحب صوت أم كلثوم إذن. الإثنين، الثامن من نيسان لهذا العام، قرابة الواحدة بعد الظهر، وبينما أنظر في سماء دالاس، لا أعرف لماذا تذكرت، من بين كل الأغاني، أغنية رباعيات الخيّام. وهي صدفة لن تتكرر مرة أخرى في حياتي. صدفة وجودي في بقعة من هذا العالم تشهد كسوفاً شمسياًَ كلياً، لماذا أم كلثوم والرباعيات، لا أعلم.
النهار المرتقب بدأ غائماً، لحظ أهل تكساس وزوارها العاثر. هؤلاء الذين توافدوا من كل أميركا ليشهدوا الظاهرة الأليفة على عكس العديد من ظواهر الطبيعة. أو ربما كانت السماء غائمة فوق البقعة التي أنا فيها بالتحديد.. حظي وأعرفه.
حين بدأ قرص خفي يبتلع قرص الشمس شيئاً فشيئاً، راح ضوء النهار يخفت لا كما الغروب، بل كما لو أنه يخبو تمهيداً لأن ينطفئ. كأن غلالةً رميت على السماء فباخَ لونها ولون الكوكب أسفلها. وبينما أنظر عبر النظارات الواقية، راحت الغيوم تنقشع، كما في قصص الأطفال، ولم يبق في السماء إلا دائرة مسكينة يلتهمها الفراغ ببطء ولؤم.
كانت دقائق طويلة من إحساس نادر، أو حتى يتيم، لم أشعر به من قبل. أنا الآن أتوحّد مع كل الذين وقفوا مثلي مشدوهين بالسماء خلال مئات ملايين السنين، من أيام الكائنات الشقيقة التي سبقتنا إلى الوجود وانقرضت أو خاضت حرب بقائها وصمدت، ومن أيام جدينا العزيزين، حواء وآدم، والأنواع المتتالية من البشر التي تطورت منهما، لم يبق منها إلا نحن. كلنا، الذين مررنا بهذا الكوكب، التفتنا يوماً إلى السماء، وانقطعت أنفاسنا.

هي لحظة ذهول تام، أن يتلاشى هذا القرص اللاهب المتسلط الذي يعمينا إن حدقنا فيه. أن يضعف ويتواضع ولا يعود يحرق أعيننا إذ نرفعها في وجهه، بل يتابع انزواءه حتى يختفي تماماً، ويهبط الليل على منتصف النهار. كم كان مخيفاً الكسوف قبل أن نكتشف الكلام وقبل أن نرسم على جدران الكهوف وحتى قبل أن نطلق على الكسوف أسماءه الكثيرة. كم كان موحياً قبل أن نقيم المعابد وقبل أن ندفن أول موتانا. كم كان غامضاً ونحن نتعلم الزراعة والكتابة وننصب الآلهة ونعزلها، ونخترع آلاف الأديان ونتحارب حولها وبسببها. كم كان مذهلاً لأنه شديد الغموض، يحدث فجأة، من دون موعد، ولا نعرف له سبباً ولا يترك أي أثر ملموس غير ذاك الذي في أذهاننا، لأنه ليس زلزالاً ولا بركاناً. كم كان آسراً لأنه كان كرسالة من السماء، إشارة من يد سماوية عملاقة تريد أن تخبرنا بأمر ما، تريد أن تهمس في آذاننا بسر لا نعرفه. تسدي إلينا نصيحة. كم كان ملهماً حتى يتكرر إلى ما لا نهاية في الأساطير، ويحوم حوله المنجمون والكهنة، وترقص في عتمته الجماعات، وتُقرع له الأجراس والطبول وتقدم من أجل رضاه القرابين.
كان إشارة من السماء نجهل كنهها، وبقي كذلك، حتى بعدما عرفنا أنه مجرد لقاء آخر بين ثلاثة رفاق قدامى، يقف القمر فيه بين الأرض والشمس، فيخبئها قليلاً، ثم يكمل كل في طريقه المرسوم في الكتاب المحفوظ.
لم يخسر الكسوف سحره حين فسرّه العلم، بل زاده سحراً. هذا السحر الذي يقترب الآن من اكتماله، فأخلع النظارات الواقية، وأنظر مأخوذاً.
مأخوذ. أظنه التعبير الملائم للتوحّد مع الوجود برمته. لحظة روحانية، صوفية، أود لو أقول إنني سمعت فيها صوت الكون، موسيقاه السرمدية، لكن ما سمعته، للمفارقة، كان صوت صديقي الأميركي وهو يقلد بأعلى صوته عواء الذئاب.
ضحكت، لكنني ظللت مع القرص الأسود، واحداً آخر يقف بين الواقفين، من السلف الأول إلى الحفيد الأخير، ينظرون إلى أعلى، في هذا الخيط الطويل الطويل من الزمن السحيق اللانهائي.
بقيت أنظر في السماء حتى أفلتَ القمرُ الشمسَ، وانفجر خاتم النار وبقي معلّقاً في الفراغ كأحلى ما يمكن أن يراه مخلوق في حياته، ثم اختفى بدروه بينما الشمس تعود هلالاً، وتتسع وتسطع وتعود إلى عادتها اليومية، وينتهي هذا العرض الكوني المبهر، وأرجع إلى كوكب الأرض، مفكراً برباعيات الخيّام.
ربما هو البيت الأول من الأغنية. "سمعتُ صوتاً هاتفاً في السحر… نادى من الغيب غفاة البشر". في المحاولة الأولى للكتابة، بحثت، لعاري، عن الرباعيات بأصوات مطربات أخريات. لكنني عدلت عن ارتكاب هذه الخطيئة وشغّلت الأغنية بصوت الكوكب، ووجدتني لا أعرف إتمام كتابة جملة واحدة، لكنني أتمايل طرباً.
مع أنها ليست أول مرة أسمعها، إلا أنني كنت كمن أسمعها لأول مرة. كأنّ ستاراً فُتح، أخيراً، بيني وبين صوتها. بدلاً من أن أكتب عن الكسوف، أغمضت عيني وذهبت في الصوت مأخوذاً، كما كنت قبل قليل، والسماء ليس فيها إلا قرص أسود خلّاب.
في المحاولة الثانية للكتابة، هذه التي تحدث الآن، وضعت العنوان أعلاه وقد عزمت على رمي نفسي في التهلكة والاعتراف بأنني لا أحب صوت أم كلثوم. الآن، وبينما أكتب هذه الكلمة، أم كلثوم تعيد "فكم توالى الليل بعد النهار".. وفي كل مرة أحلى من التي سبقتها.. حتى يصل صوتها بي، وأصل به، إلى ما يشبه أثر النبيذ الأحمر في الذهن المخمور، وأفكر أن هذه كانت نصيحة الكسوف لي وسرّه الذي همسه في أذني: أن أقع في حب أم كلثوم. ويبدو لي أنني، أخيراً، وقعت.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها