الأربعاء 2024/03/20

آخر تحديث: 06:18 (بيروت)

الاحتمالات العديدة لسقوط بائع الخضار

الأربعاء 2024/03/20
الاحتمالات العديدة لسقوط بائع الخضار
increase حجم الخط decrease

مسكين بائع الخضار. جالس بأمان الله، محاطاً بألطف مخلوقات الأرض، الفواكه والخضار، وإذ يقتحم دكانه رجل طويل عريض المنكبين محاطاً برجال ملثمين يرفعون رشاشات، ليسأله عن سعر كيلو الخيار.
سيتلعثم البائع المسنّ، كما تلعثم قبله سرحان عبد البصير في "شاهد ما شفش حاجة"، وقد يسقط مغشياً عليه لا من الغبطة والسرور بل لأنه ظنّ أن هؤلاء عصابة شريرة جاءت تسطو على مخلوقاته الوديعة، التي ليس من بينها حتى أي نبات مخدر من الصنف غالي الثمن.
لو لم يسقط لالتباس الأمر عليه إذ لم يعلم من هذا الرجل المهم، لا شك أنه كان ليسقط في خجله إذ يعرّف الرجل المهم عن نفسه، فيقع البائع في الذهول للمرة الثانية على التوالي، إذ يجهل من يكون الوزير أمين سلام.
السقوط الثالث المحتمل لبائع الخضار، سيكون حين يشرح له هذا الوزير الغامض أنه أتى بنفسه، وجلب معه هذه الباقة من الفهود البشرية المدججة بالأسلحة ليتأكد شخصياً أن هذا البائع لا يتلاعب بسعر الخس والفجل والبندورة وخلافه، فقد حلّ شهر رمضان، وحلَّ معه الموعد السنوي لإعلان حالة الطوارئ العامة لحماية صحن الفتوش من جشع التجار.
وقد تعود اللبنانيون أن يناموا بينما عين الوزير ساهرة على صحن الفتوش سهر اللبوة على جروها الرضيع. والدليل أنه في كل سنة ينظم جولات مفاجئة على المتاجر والأسواق الشعبية وحتى الدكاكاين العادية، محاطاً بمسلحين تابعين لأجهزة رسمية يصابون بعتهٍ مؤقت حين يرون الكاميرات فيتخذ كل واحد فيهم وضعاً قتالياً منسوخاً من فيلمه المفضل، ويوجهون بنادقهم إلى صدور البطيخ والبرتقال، فيدب الرعب في قلوب المأكولات وتحضن ضمة البقدونس ضمة الكزبرة وترتجفان باكيتين، فلا يعرف الوزير، أيهما الكزبرة وأيهما البقدونس.
الغزوة السنوية التي يقوم بها الوزير غالباً ما تنتهي بموجة من السخرية الوطنية العامة لا تليق لا بجدية الوزير ولا بهيبة الأجهزة العسكرية، ولا شك أنها تحرج رئيسه في تصريف الأعمال وزملاءه الوزراء الآخرين الذين من الصعب أن تجد لبنانياً يعرف عددهم أو يقدر على تسمية خمسة منهم على الأقل. والوزير مصر على تذكير اللبنانيين بوجود الوزراء، بأسوأ طريقة ممكنة. يهجم على دكان خضار بمسلحين ملثمين فيوقظ تروما الحرب الأهلية في مفاصل بائع منهك يخوض يومياً عشرات جولات المفاصلة مع زبائن يعرفهم ويعرفونه بالأسماء، لا هو ولا هم بحاجة لسيف العدل القاطع هذا ليفاوضه حول سعر البصل بالسنت الأميركي.
يعلم الوزير أننا نعلم أنه يعلم أننا نعلم أن جولاته هذه استعراض إعلامي بلا معنى، وأن الرقابة الحقيقية تكون بارسال مفتشين سراً، وليس بجولة بمرافقة مراسلين ومصورين. لو أنه حقاً يهتم لأمر الرعية في شهر الصيام، لفعل كما كان يفعل أمير المؤمنين هارون الرشيد في "ألف ليلة وليلة"، يتخفى وينزل بين الناس يستطلع أحوالهم ويسمع شجونهم ويعود إلى قصره ليبنى على الشيء مقتضاه. اللبنانيون بحاجة لحكمة هارون الرشيد، لا لنزق جبل شيخ الجبل. أمين سلام يصر على أن يكون تيم حسن، مع أنه بسهولة يمكنه أن يكون هارون رشيد زمانه. وهو ليس بحاجة إلى تغيير ثوبه ولا إلى حجب وجهه بلثام. كل ما عليه فعله هو أن ينزل من بيته وحده، من دون مسلحين ولا إعلام. لا أحد على الرصيف سيعرفه، لا سائق السرفيس الذي سيقلّه إلى دكان بائع الخضار سيعرفه، ولا الراكب الجالس بجانبه على المقعد الخلفي. أما البائع الذي سيظن أمين زبوناً عادياً، فسيتفادى رعباً يمكن أن يقصر في عمره فقط لأن أمين سلام يريد أن يقلد تيم حسن.
كان يمكن للوزير لو لعب دور هارون الرشيد، أن يأخذ ما شاء من وقت في للتفريق بين ضمتي الكزبرة والبقدونس. قد يفشل، لأن هاتين المحتالتين الصغيرتين بشعرهما الأشعث نفسه، تحبان مثل التوائم إرباك الآخرين بادعاء كل واحدة منهما أنها الأخرى. إلا أن الموقف كان سينتهي هنا، بأن يضحك الوزير وتضحك الضمتان معاً ويضحك البائع. وهذه نهاية أخرى من نهايات شهرزاد أرق وأحلى بما لا يقاس من نهاية يصوب فيها مسلح ملثم بندقيته إلى رأسي الكزبرة والبقدونس صارخاً في كل واحدة منهما أن تقول اسمها وتعترف بسعرها الحقيقي في السوق، وإلا سيتدخل الوزير أمين سلام بنفسه، ويمزقهما إرباً إرباً، حتى تختلط عليهما نفسيهما، ولا تعودان تعرفان من فيهما الكزبرة ومن البقدونس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها