يتشارك كثيرون مع علي الشعور بالإقصاء عن وسط مدينتهم وعاصمة لبنان، منذ إعادة إعماره بعد الحرب الأهلية. فقد كان القصد منه، ومنذ بنائه، أن يكون لعيّنة واحدة من الناس. بالنتيجة، لم يتحول هذا المكان إلى قلب المدينة النابض كما هو متوقع من أي وسط مدينة في العالم، وإنما جزيرة للأغنياء، كما يصفه كثيرون. وقد بدا ذلك جلياً بعد تدهور الأوضاع الأمنية في السنوات الأخيرة التي أدت إلى خلو أرصفة هذا الوسط ومقاهيه من الرواد نتيجة تراجع نسبة السياح بشكل كبير.
منذ دخول شركة "سوليدير" عليه، أصبح هذا الوسط عبارة عن مركز تجاري مخصص لأقلية من اللبنانيين وللسياح من العرب والأجانب. ليس ذلك مدعاة للإستغراب، نظراً إلى إعتبار لبنان بلداً خدماتياً سياحياً، بالإضافة إلى تبجيلنا لكل ما هو عصري، ومعولم وغربي، فيبدو تخلينا عن جزء مهم من مدينتنا لصالح الأجانب وأصحاب الأموال من مستثمرين أو سياح أمراً لا ريب فيه. لكن المفاجأة تتجسد في التحول الذي خضع له وسط المدينة بعد الحرب. فالوسط الذي كان عبارة عن خراب وركام بعد حرب درات بين شرقه وغربه، أصبح أكثر الأماكن أناقة نتيجة عملية الإعمار، التي بدت كأنها تعارض سيرورة التغيير الطبيعية للمكان. مما يعني أن هذا التغيير أسقط بطريقة مصطنعة مما أنتج مكاناً متكلفاً وغير حقيقي.
لقد تعاملت "سوليدير" مع وسط المدينة، كأنه مساحة فارغة يمكن ملؤها بأي هوية. لكن اتهام "سوليدير" بإفراغ المكان من أي هوية قد لا يكون دقيقاً. فالحقيقة أن الشركة حاولت إستبدال الهوية السابقة بواحدة جديدة. تشرح كارولين ناجل Caroline Nagel، في بحثها "الصراع الإثني وإعادة التنظيم المدني في وسط بيروت" أن "سوليدير حاولت إعطاء وسط بيروت هوية فينيقية، بخلاف الهويات الطائفية التي كانت مهيمنة خلال الحرب. وهي هوية تسويقية موجهة إلى السياح قبل المواطنين المحليين، نظراً إلى الجدل الذي يدور حولها". وتقول ناجل "ليس هناك لبنان أو هوية لبنانية أصلية تتناقض مع العلامة التجارية التي تسوق لها سوليدير".
إلا أنّ أكثر ما يفتقد إليه قلب المدينة هو هويته الثقافية. فباستثناء شارع "الحمرا"، الذي يلتصق به طابعه الثقافي منذ زمن طويل، إكتسبت أجزاء أخرى من بيروت مؤخراً هوية ثقافية، كالجميزة ومار مخايل. قد تشبه هذه الأمكنة الطبيعة الإقتصادية والرأسمالية لوسط المدينة، إلا أنها إستطاعت تمييز نفسها بتحولها إلى ملتقى ثقافي. في المقابل، خلا وسط بيروت من المسارح والمتاحف، كما تم إغلاق دار الأوبرا- الوحيد في لبنان- لإستبداله بمتجر "Virgin Megastore". وهذا ما يقلل من قدرة الوسط على إستقطاب الرواد، بالرغم من كونه مجالاً عاماً يتضمن ساحات ومساحات مجانية. لكن يبدو أن إدارة "سوليدير" إستدركت الأمر، إذ برزت مؤخراً محاولات لإعطائه طابعاً ثقافياً وفنياً من خلال تنظيم مهرجانات ونشاطات عديدة.
ضياع هوية وسط بيروت يعود أيضاً إلى مقاطعة الناس له، بشكل مباشر على خلفية قرار أيديولوجي، أو بشكل غير مباشر. فهم إنسحبوا وتركوا لـ"سوليدير" حرية التصرف به ورسم ملامحه. فمساحاته العامة ليست مغلقة أمام العمال محدودي الدخل، أو العمال الأجانب، غير أنهم قرروا أو إعتادوا الذهاب إليه. يبقى بذلك هذا المكان العام خاصاً جداً بفئة معينة من الناس.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها