الأربعاء 2024/03/13

آخر تحديث: 11:49 (بيروت)

"حمقى" هوليوود في زمن الإبادة...ودبابيس في كومة قشّ

الأربعاء 2024/03/13
"حمقى" هوليوود في زمن الإبادة...ودبابيس في كومة قشّ
منطقة الاهتمام
increase حجم الخط decrease
"كل فيلم هو نتيجة المجتمع الذي أنتجه. ولذلك أصبحت السينما الأميركية في غاية السوء الآن. إنها انعكاس لمجتمعٍ غير صحي" (جان لوك غودار)

حصد فيلم the Zone of Interest للمخرج البريطاني جونثان غلايزر، جائزة أوسكار، لتضاف إلى ثلّة من الجوائز الرفيعة التي نالها حتى الآن. وكما كان متوقعاً، وقف المجتمع السينمائي مصفقاً للفيلم ومعرباً عن تأييده لرسالته، لكن بالطبع، فاته المغزى تماماً.

تدور أحداث فيلم "منطقة الاهتمام" في الباحة الخلفية لمعسكر أوشفيتز في بولندا العام 1943. هناك، وعلى بعد أمتار من المجمّع الذي أضحى رمزاً للهولوكوست، تسكن أسرة الضابط النازي، رودولف هوس الذي أشرف على قتل أكثر من مليون يهودي بالغاز السامّ. لا يرى المشاهد من معسكر القتل سوى أسواره، والمَشاهد التي تخلّفها في المخيّلة أصوات الصراخ وطلقات الرصاص المتسرّبة إلى مسامع الأسرة، من دون أن تعكّر صفوها أو تشغلها عن الاستمتاع بالحياة الرغيدة بمحاذاة أكبر إبادة جماعية شهدها التاريخ.

في مقابل هذا العنف المستتر خارج كادر الكاميرا، يركّز المخرج عدسته على حديقة منزل الأسرة هوس. حديقة تكسوها الورود والأشجار، يلهو فيها الأطفال ويسترخي في فيئها الكبار.. أمّا بركة السباحة التي تتوسّط الحديقة فقد أضحت مَصيفاً يقصده الأصدقاء والزوار للاستجمام. إن هذه الصور، بكل ما توحيه من هدوء وترف، بل حتّى وبراءة، تختزن في صميمها قمّة العنف والدموية.

بالنسبة لكثرٍ ممّن شاهدوا الفيلم، بدت هذه المفارقة بين معسكر القتل وحديقة الأحلام مألوفة جداً. ليس لأننا قد صادفناها مراراً من خلال الروايات التاريخية عن الهولوكست، بل لأننا نشهدها اليوم، وبشكلٍ متواصل، منذ 75 عاماً. يعكس الفيلم، وبما لا شكّ فيه، واقع غزّة والفلسطينيين عموماً، التي تكدّسهم اسرائيل داخل سجونٍ مفتوحة في باحاتها الخلفيّة، بينما ينعم مواطنوها بكيبوتزاتهم الخضراء، وفيللاتهم الفارهة، وحياتهم المترفة. وكما تحوّل منزل هوس الى وجهةٍ سياحيّةٍ للأصدقاء، كذلك إسرائيل التي يقصدها السوّاح من أجل شطوطها و"معالمها التاريخية" وحفلاتها الراقصة بعدما أعلنها الإعلام الغربيّ "جوهرة" السياحة الشرق أوسطية.

 

وإن كان هذا التوازي غير واضح بالنسبة للبعض الذي يقرّر بشكلٍ واعٍ، وعلى غرار أسرة هوس، أن ينكر الواقع الماثل أمامه، فقد بسّط المخرج اليهوديّ المسألة عبر تهجئتها لأصحاب العقول الغليظة. ففي الخطاب الذي ألقاه عند استلام الجائزة، كما في تصريحات سابقة، أشار غلايزر إلى أنّ الفيلم ليس فقط عما حصل سابقاًً، بل عمّا يحصل اليوم. وقال غلايزر "الآن، نحن نقف هنا كرجال يدحضون يهوديتهم وسرقة المحرقة من قبل الاحتلال".

وازى المخرج اليهوديّ صراحةً بين محرقة الأمس ومذبحة اليوم، حيث تغيّر دور اليهود ما بينهما من ضحية الى جلّاد، في تحدٍّ واضح للاجماع الغربيّ بأنّه لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد، ما يضاهي المظلومية اليهودية سواء في الماضي أو المستقبل.

استقبل جمهور "الأوسكار" فيلم "منقطة الاهتمام" بحفاوة بالغة، فوقف مصفقاً في ما يعرف بالـstanding ovation. في صفوف هذا الجمهور بالطبع مَن يناصر القضية الفلسطينية، وقد عبّر هؤلاء عن موقفهم بارتداء دبابيس حُمر تُجاهر بمطلب وقف اطلاق النار، منهم بيلي آيليش ورامي يوسف، ومارك روفالو... لكن ماذا عن السواد الأعظم للمجتمع الهوليوودي؟ ذلك الذي لا يتوانى يوماً عن إبراز دعمه لإسرائيل، والذي يُدفع فيه ثمن التضامن العلنيّ مع الشعب الفلسطينيّ بالتهميش وفسخ العقود. هذا عدا عن غياب السردية الفلسطينية عن هوليوود أصلاً. وهي لم تحضر في الأوسكار سوى كانعكاسٍ لسرديّة أخرى.. وكشاراتٍ فردية مُطالبة بوقف المجزرة.

ألا تحمل هوليوود شيئاً من المسؤولية عن تلميع صورة إسرائيل، على غرار خادم الضابط هوس، الذي يستقبل سيّده يومياً على عتبة الباب كي يغسل الدماء عن جزمته قبل دخوله البيت؟

هؤلاء المنتجون والمخرجون وأباطرة هوليوود، الذين غسلوا جرائم اسرائيل على مدى عقود، ووصل الأمر ببعضهم الى ارتداء البوط العسكريّ الى جانب الجيش الاسرائيلي في حربه الأخيرة (نعم، نتحدّث عن مخرج هوليوود المرموق كوينتن تارانتينو)، هؤلاء كانوا حاضرين في الأوسكار معنوياً وجسدياً، كمصفقين أو مُصفَّق لهم. هؤلاء كانوا من المُحتَفين أو المحتفى بهم لإصدار أعمالٍ تنصف ضحايا الماضي، من نساء وعبيد وسكان أصليين واللائحة تطول… حتى "باربي" حصلت على فيلم ينصفها. هل حذا هؤلاء حذو وزيرة الثقافة الألمانية التي صفّقت في مهرجان برلينالي للمخرج الاسرائيلي دون زميله الفلسطينيّ؟ هل وقفوا للفيلم الذي يروي مأساة الهولوكوست ثمّ عادوا وجلسوا حين أدلى المخرج بخطابه عن رديفها الفلسطينيّ؟

ليس مجتمع هوليوود مسؤولاً مباشراً، كما هو حال جوزيف غوبلز مثلاً، عن المذبحة الحاصلة في غزّة. لكنّ دوره يسبق ويتجاوز هذه الجريمة إلى جرائم أخرى. فهو آلة الدعاية الأولى، وربّما الأخبث، لأعظم قوّة في العالم، وأكبر اقتصاد. وخبثها يكمن في نعومتها، في جمال الفساتين المتبخترة على السجادة الحمراء، في ما تروّج له من قيم الديموقراطية والتحرّر والأسرة. وهي، خلافاً لآلة البروباغندا الألمانية، مؤلّفة من نجومٍ قادرين على التعاطف والتضامن، يذرفون الدمع وتنفطر قلوبهم أمام المَشاهد القادمة من غزّة، يلعبون أدوار سفراء الإنسانية وحمامات السلام، يبجّلون ثوّار الماضي وضحايا التاريخ.. يمارسون الناشطية الأدائية فيما ينكرون دورهم المحوري في عجلة إنتاج العنف، بنسخته الرقيقة والاستطيقية.

لكن ماذا يتوقّع المرء من أكبر تجمّع للنرجسيين والذوات المفخّمة في العالم؟ نخطئ إن ظننا أن هذا الاعتداد بالنفس قد يحمل أياً من نجوم هوليوود على أداء دور البطل المنقذ في الحياة الواقعية، فهم يدركون جيداً الحدود المسموح لهم اللعب داخلها، ضمن حركة رأس المال نفسها التي تصبّ في تمويل حربٍ هنا، وانقلابٍ هناك، وأحياناً.. في تمويل إبادة جماعية.

في العام 1968، قاطع المخرج جان لوك غودار، مهرجان "كانّ"، ونجح في إيقافه، تضامناً مع الحركة الطلابية والعمالية، والتي كان أحد مطالبها وقف الحرب على فيتنام. وقال غودار آنذاك: "نحن نتحدث عن التضامن مع الطلاب والعمال، وأنتم تتحدثون عن لقطات طولية ولقطات قريبة.. أيّها الحمقى!"... بالحمقى وصف غودار مَن لم يتضامن مع الطلاب والعمال، فبماذا يُنعت مَن يقصّر في التضامن مع شعبٍ يُباد على "اللايف ستريم"؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها