الجمعة 2015/05/29

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

فياغرا..!

الجمعة 2015/05/29
فياغرا..!
increase حجم الخط decrease

لم يتعلّم الموارنة الدرس. تهاوى منصب رئاسة الجمهورية الذي كان امتيازاً فريداً لهم في هذه البيداء الإسلامية الواسعة التي كانوا أشبه بعيّنة مخبرية فيها، واكتشفوا – متأخّرين – أنهم لا يشكّلون على خريطتها أكثر مما يشكّله لبنان على خريطة العالم.

لكن مصيبتنا بهم – كلبنانيين – هي أكبر وأعمق وأعمّ من خسارتهم منصباً كان فقد رونقه أساساً مع آخر شاغليه. ومهما قِيلَ، فإن ضياع كرسيٍّ في جمهورية آفلة، ليس كارثة، بل إن الكارثة تتمثّل في ذلك الحماس الأرعن لنجوم الصفّ الأول فيهم (وهم يجرّون معهم بقية ركّاب البوسطة) للسير في طريق عوجاء تؤدي بمقتضى منطق الأمور، إلى خسارة الجمهورية. ومن يدري، فقد نخسر أيضاً ما هو أكثر من لقبٍ فخمٍ ونظام حكم... وها هو الفلسطيني أمامنا مثال حيّ وبائس لما يمكن للأزمة بلوغه، وإلى الجانب يلوّح السوري بقلب مبقور مترنّحاً على الطريق ذاته، ومثله الليبي والعراقي، في حين ينتظر المصري والآخرون أدوارهم... على ما تؤكده العرّافة. فالظاهر، والله أعلم، أن مسألة خسارة وطن، والتي كان يُظَنُّ أنها مستحيلة بالقوّة وبالفعل، لم تعد في شرقنا على تلك الإستحالة المقفلة، بل يبدو أنها أصبحت في الواقع أقل تعقيداً وأسهل طبخاً، ودائماً بفضل الرعاية المناسبة من قبل مجتمع دولي يصعب وصفه بكلمة مهذّبة، ومقدار متواصل من القلق الفارغ الذي بوسع "بان كي مون" الإعراب عنه بشكل يومي... والوطن الفلسطيني محطة لا بد من استذكارها على الدوام.

تُجمع التقارير التي لا نُحبّها ولا تُذاع على أن وضعنا هو أسوأ حالاً مما يبدو عليه، بل إن سوء حالنا بلغ من التفاقم والخطورة درجة دفعت بمدير في البنك الدولي هو الجزائري فريد بلحاج، إلى التحذير من "ثمن باهظ سيكون لا بد من دفعه في حال استمرار المجتمع الدولي في خذلانه للبنان". وحين لم يلاحظ الرجل أيّ  ردّة فعل مذعورة في بيروت، أضاف مفسّراً أن "ضغط الأزمة السورية يمكن أن يشكل خطراً على وجود لبنان بحدّ ذاته بسبب التوازن الاجتماعي الخاص لهذا البلد".

لكن اللبناني العنيد لم يتأثر، وهو الذي لا وقت لديه للاهتمام بما لا يعجبه. فهذان "النفيان اللذان شكّلا أمة" - رغم أنف الصحافي الكبير جورج نقّاش-  ما برحت تنام ملء العين عن شواردها، وإن استفاقت، فليس من أجل التعامل بمسؤولية مع الخطر أو التصدّي بجدّية للواقع ، بل فقط لإحراق ما تبقّى في اليقين الجمعي من ذكريات في مادة التكاتف الوطني، ولتحديث إضافي لطقوس التنابذ والفرقة على أسس مسمومة تتجدد على الدوام.

منذ أيام فقط أجتمع وجوه أحد النَفيين وهبّوا مع كلماتهم المحضّرة سلفاً، إلى بكركي. قالت "الأخبار العاجلة" أنهم في سبيلهم للإستئناس بسديد رأي سيد الصرح، ثم قالت أنهم سيُقسِمون أمامه على التوبة عن تضييع الفُرَص. لكن غايتهم من الزيارة، على ما تبيّن بعد حين، كانت أبعد وأمضى وأكثر تماشياً مع تراث الوجوه الموارنة في لبنان عبر القرون الأخيرة. فمن الصرح الذي "أُعطيَ لسيده مجد لبنان" على ما تقول النصوص المأثورة، أثبت الجماعة بمختلف لهجاتهم أن ليست الرئاسة ولا الجمهورية ما حملهم على الإنتقال إلى أرفع مرجعياتهم الدينية، بل إن  ما دفعهم إلى إهمال طاولات الزهر وحلقات الـ "توك شو"، كانا بالتمام والكمال: النكاية والكيد... فقط لا غير. على عتبة الخروج كشطوا ما على ألسنتهم من كلام معلوك، ورشّوا ملحهم في العيون الشاخصة، ثم مشوا عائدين من حيث أتوا كمن يحمل جثة عدوه، غير مبالين إن كان من شأن ذلك واستفحاله أن يرتدّ على لبنان وعلى اللبنانيين جميعاً، بمن فيهم هم أنفسهم ومعهم الخواجة مخايل وأقاربه.

ولئن كان هذا دأب أهل هذا القاطع، فالدأب على القاطع الآخر لم يكن أسلم أو أشفى. القوم هناك  منشغلون أيضاً بأمور مختلفة لكنها ليست أقلّ خطورة. في رأس أجندتهم: عرسال أولاً... حيث "المعركة قادمة لا محال في البلدة وجرودها للتصدي للجماعات التكفيرية (...) وحزب الله واللبنانيون هم من سيقومون بالمهمة"، كما صرّح وأوضح  النائب فادي الأعور عضو تكتل "التغيير والاصلاح".

هذا التصريح الموجّه أنعش في الذاكرة الجماعية خطاب الأمين العام لـ"حزب الله"، فازرقّت الوجوه وانتصبت الأعناق وعاد عدّاد المخاوف إلى الذروة. وجاء دور الطبّالين لإكمال المشهد، فأشاع أحدهم أن "تصعيد الأمين العام لـ"حزب الله" في إطلالته الأخيرة، نجم عن معلومات تسرّبت إليه من طهران بأن المحادثات السرية الناشطة بين الولايات المتحدة وإيران، تجاوزت القطوعات وفتحت الباب لتوقيع الاتفاق النووي آخر حزيران القريب، ما من شأنه إطلاق يد إيران في المنطقة كما لم يحدث منذ عقود..." وبالتالي فقد كان يستند في خطابه إلى عوامل قوة ينبغي أن تسبب القلق للقوم الآخرين.

وحيث أن التطبيل والتزمير ليسا حكراً على فريق واحد، فقد خرج طبّال من القاطع الآخر، حتى قبل أن يتاح لنا الشعور بالاطمئنان أو بالقلق، وراح ينادي مفسّراً بأن "كل هذه الاجتياحات الحاصلة في العراق وسورية، إنما هي نتيجة مباشرة لفشل المحادثات بين إيران وأميركا وعدم وصولها إلى أيّ اتفاق، وبالتالي فالعمل (الأميركي) جارٍ لتقليم أظافر آيات الله وامتداداتهم".

وبفضل من الله ومن هذا التناقض المفيد، بردت القلوب وهانت الأمور ونسي الناس على الجانبين مشاكل الإزرقاق والإنتصاب، وعادوا من مختلف الطرقات الجانبية نحو مرفأ  الرئاسة. لكن السفينة  في هذا الوقت كانت قد ابتعدت عن الشاطئ، وثبت للسفراء على متنها ان "أقوى الموارنة وأوسعهم تمثيلاً"، بات هو الأبعد عن كرسي بعبدا، لكونه الأكثر جلبة وإثارة للمخاوف.

البصّارة المتصلة بالأجهزة قالت إن الحلف السرّي بين الرئيسين الأسبق والمتواصل (السنيورة وبري) أثبت مجدداً أنه الأقوى والأجدى لهكذا شعب. وقال آخرون إن هذا الحلف  يبقى الضمان الأساس لعدم انزلاق البلد على قشرة موز الأزمة الرئاسية. وبسرعة قياسية تلاشت زُرقة الوجوه وانتصاب الأعناق، وعادت الجماهير إلى عاداتها الأزلية في الانتقاد والشتم والنقّ، وعاد الهواء العليل يهب على البلد. ثم راحت السكرة وجاءت الفكرة واستعاد الناس عقولهم من أسر القلق والمخاوف، فتبيّن أن حلف الرئيسين غير المعلن، والذي اعتبره البعض "تآمراً يشبه الخيانة" ورآه البعض الآخر "وطنية تشبه التضحية"، إنما هو مفيد ومجدي في أمور أخرى أيضاً أساسية وحيوية لم تكن تخطر في بال أحد.

وهذا النوع من المنفعة الجانبية غير المقصودة ولا المتوقعة، لا بد أن يُذكِّر بسيرة حبّة الفياغرا. فقد جرى اختراعها في سبيل معالجة أمراض القلب، ثم تبيّن لاحقاً  وبالتجربة أنها أكثر جدوى في جَبر خواطر المتقاعدين، ليظهر حديثاً أنها تفيد (أيضاً) في منع انتشار الملاريا.

وإلى أن يكتشف العلم حقيقة ذلك الخيط المُبهم الرفيع الواصل بين القلب والتقاعد والملاريا، ستبقى الحبّة الزرقاء متعددة المواهب والفوائد والإمكانات، مصدراً محتملاً للمزيد من الاستطبابات الجديدة المُفرِحة. ومن يدري، فقد تحل المشكلة التي عجز اللبنانيون عن حلّها على امتداد عام...وأكثر.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب