الجمعة 2017/12/01

آخر تحديث: 08:35 (بيروت)

زمن النفتالين

الجمعة 2017/12/01
زمن النفتالين
هل انتهت الأزمة؟ (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

كانت الإشارة واضحة لا لُبس فيها إلا لمن لا يرى من خلال الغربال. الأزمة التي اختلقتها السعودية للبنان، على خلفية مشاحناتها مع إيران، بلغت نهاية مرحلتها الأولى. الفضل يعود للرعاية الفرنسية والحكمة العونية، ومعهما... صفقة صواريخ S-400  الروسية للسعودية. إعادة السبهان إلى الرفّ من دون لقبه بشكل فُجائي، كانت الإيذان المباشر بتجاوز بلدنا تلك المرحلة والدخول في زمن النفتالين. هذه الكُريات البيضاء التي يُقال إنها تضمن مكافحة العث في مفاصل جسم الجمهورية المترهل. فالدولة التي يُجهد ميشال عون لبعثها من الرماد، لا تُشبه طائر الفينيق بشيء.

وعلى مذهب القول السائر فالبشائر أيضاً (وليس النذائر وحدها) لا تأتي فُرادى. فالرئيس سعد الحريري آب إلى "أمة تيار المستقبل" من وعكته السعودية، وذلك بدفع حثيث من أمة بعبدا خلف الرئيس عون وأمة حزب الله وأمل خلف السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري. ومع هؤلاء إصطفّ ثلاثة أخماس "أمّة 14 آذار" التي "أُعيد تفعيلها" على الشبكة. ولولا افتضاح أمر الدكتور سمير جعجع حين رفع يده يتلمّس الريشة المزعومة على رأسه، فانكشف مستوره، لما انتبه أحد إلى ما أخفته لقاءاته غير المُعلَنة مع أشهر مُغرّد سعودي عند اللبنانيين. صحيح أن الرجل حريص غالباً، لكنه سيء الحظ في معظم الأحيان. لذلك تحديداً دخل لسانه الإعلامي "الخشن" (شارل جبّور) على الخط، فإذا به تحت سورة الغضب على نِيّة الحكيم، ُيؤكد من حيث لم يقصد ما كان مشكوكاً فيه، ويثبت التهمة التي أحدثت ندوباً فُجائية ما انفكّت تتفاعل في بدن العلاقة بين رئيسي التيار الأزرق وحزب القوّات.

هذا على المستوى الداخلي. أما في الإقليم، فلا جديد بعد مما هو مُتوقّع، على الرغم من أن "المسرح اللبناني" قدّم مفاجآت استثنائية وأعمالاً غير فنيّة لم تكن مسبوقة كما يعلم الجميع. منذ اصطفاف الحريري إلى جانب عون ليدخُلا معاً دائرة الحكم، وحتى عودته من تلك الغيبة المُلتبسة وافتتاحه حقبة التريُّث.

ما يهم أن نعرفه اليوم  هو أن المقامرة السعودية في لبنان لم تكن مُقامرة حقاً، وأن المملكة، على الرغم من اتهام رجلها القوي بالتسرّع، لم تفكّر حقيقة في قطع دابر الرئيس الحريري في رئاسة الحكومة ومعها في السياسة اللبنانية عموماً، ولا حتى لمصلحة شقيقه بهاء (على الرغم من "صولد" اللواء ريفي). فالسعودية، وعلى الرغم من حالة الإيغال في لحم الذات تحت عناوين إصلاحية، إلا أنها أكثر دراية من أن تحكم على ساعدها اللبناني بالبتر، وقد حضنته ورعت نُموّه على امتداد عقد طويل من الزمن الثقيل. إلّا أنها، وهذا أخشى ما ينبغي أن يخشاه اللبناني، ما برحت على دأبها في السعي لتحقيق المستحيل في بلد هو ذاته رابع المستحيلات بين الدول. فهي لا تستطيع "هضم" ما لا يمكنها التهامه. وهذه من عورات الأقوياء.

أما الرهان العقلاني اليوم فيتجه إلى ترجيح حظوظ الفرنسي الممنوح بركة واشنطن، لعلّه ينجح في إقناع صاحب القرار في المملكة، بأن لبنان لا يقوم إلّا بـ"جناحيه": الحزب والتيار. الأول ومعه العرب والعروبة وكل من يتسع له المقعد، والتيار ومعه التيار الآخر وأخوة الصفاء من آذاريي الممانعة. وللأسف، فإن المسيحيين الآخرين (وهم القلّة في المعادلة)، أي القوّات والكتائب، فيتخبّطون في وضع لا يُحسدون عليه: إما أنهم ليسوا مُرحّباً بهم (القوات) بعد ما ظهر على خلفية أزمة الحريري في المملكة، وإما أنهم يرفضون الدخول في السياق لمجرّد العناد الوطني (الكتائب). أما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، فهو على عادته، يُحلِّق بجناحَي بُعد النظر مُتمسِّكاً بحصّته من "حُمّص المولد"، ويجد مقعده جاهزاً في "البوسطة" مقابل حراكه تحت عنوان "النأي بالنفس" وطيّ الخطاب التاريخي ضد "سلاح حزب الله". وهذا تماماً ما لحقه إليه الرئيس الحريري نفسه على شاشات مساء ذلك النهار. والهدف الجماعي هو انعاش الحكومة حتى أيار الانتخابات في العام المقبل، بعد إضافة بعض النكهات إليها، ثم... يخلق ما لا تعلمون.

ولا مجال للمخاوف من عمليات غش أو "بَلف" بالتعبير الذي يستحبه الساسة اللبنانيون. فالضمانات التي من شأنها تأمين الاستقرار في الداخل، والتي طالب بها الحريري، أصبحت بيد الرئيس عون. والأمينال عام لحزب الله هو "سيّد" مَن يُحسن الحدّ من الخسائر التي لا بُد  منها. وحتى لو اضطر الأمر إلى إضافة بند جديد من عدّة أسطر على البيان الحكومي (بعد انتهاء حقبة التريُّث)، فهذا لن يُثقل عليه. فهو يدرك، والآخرون أيضاً، أن المطلوب اليوم الذي هو النأي بالنفس ليس ضربة لازم وهو لم يرِد أساساً في البيان الوزاري للحكومة المتريّثة، إنما من الممكن بيعه إياها بسعر الذهب، فضلاً عن أن سحب أصابع وزنود حزب الله في الخارج ليس قراراً يتخذه الداخل اللبناني، ولا المُطالب السعودي، بل يتحقق أساساً وفق تسوية دولية جديدة في المنطقة بين كبار العالم.

وعلى الرّغم مما ألمح إليه السيد نصرالله في خطابه الأخير حول الانسحاب التدريجي للحزب من جبهاته في الخارج، فالأخبار المستجدّة تشير إلى متغيّرات أساسية ومُذهلة في البلد، إلى درجة أنه من العسير جداً الأخذ بها. فالمعلومات تتحدث عن "هدنة إعلامية بين الحريري والحزب"، لا أكثر، وعن موافقة حزب الله على البقاء بعيدا عن أي حكومة جديدة يعتزم الحريري تشكيلها"، إضافة إلى إعلانه الإنسحاب من سورية قريباً.

إلا أن هذا يتناقض جملة وتفصيلاً مع ما نشر في مجلة "فورين أفيرز"، من أن "على الولايات المتحدة ألا تسمح للسعودية بزعزعة استقرار لبنان"... وأن ثمّة "تقارير تتحدث عن قيام مسؤولين أميركيين بارزين، بحثّ السعوديين على تجنب استخدام لبنان ميدان حرب بالوكالة مع إيران".

يبقى توضيح دور صفقة صواريخ S-400 الروسية للسعودية التي ذُكرت أعلاه. فأكثر ما يُقلق المملكة التي لديها ألف سبب للقلق، هو الصواريخ الباليستية الإيرانية قبل كل شيء. والمنظومة الصاروخية الروسية المُشار إليها هي المظلة الوحيدة التي بوسعها حماية السعودية على مجمل مساحتها. وما يُستحسن كشفه أنه خلال أزمة تقديم الحريري استقالته المُلتبسة من الرياض، اتصل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوليّ عهد المملكة (من دون الإعلان عن الإتصال)، وابلغه بأن روسيا قد تتخذ موقفاً متطرفاً ضد السعودية، كما (وهنا الأهم) ستوقف تسليمها المنظومة الصاروخية إياها. وهذا ما ساهم بعَقل الأمير بن سلمان حتى كان ما كان وانتقل الحريري إلى باريس في طريقه إلى بيت الوسط البيروتي.

فهل انتهت الأزمة؟

الجواب يلفّه نوعٌ من الغموض غير البنّاء هذه المرّة. فما بين الجمهورية والمملكة يحتاج إلى كثير من التفكر والجهد والانتظار. وهذا يعني مزيداً من النفتالين... وإلّا فإن عثّ الكبار لن يُبقي ولن يذَر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب