الإثنين 2017/11/06

آخر تحديث: 00:21 (بيروت)

الحريري: خروج بلا عودة

الإثنين 2017/11/06
الحريري: خروج بلا عودة
الحريري طلّق بالثلاثة الكرسي الثالثة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

تبيّن أن أسوأ المخاوف التي جرى تداولها مؤخراً في الفضاءات البيروتية بخصوص "انفراط الدفّ وتفرُّق العُشّاق"، كانت كلّها حقيقية، وقد تحققت بالفعل. فلا الحرص السعودي المُعلن على بقاء الحكومة، كان يعني الحرص على بقائها في الوضع الذي كانت تراها عليه، ولا الكلام المالح الذي واصل اللسان السعودي الحاد إطلاقه من فم السبهان، كان مُجرّد ضوضاء في غرفة فارغة.

الجديد أن المملكة خرجت من ثوبها القديم العتيق الذي لم يعد يليق بدولة قائدة في منطقة مضطربة. لم يعد التكتّم سلاحها، بل الإفشاء، ولا عادت تترك للآخر أن "يحزر" ما تريده منه ويقوم به، بل صارت تعتمد وسيلة المناداة من فوق السطوح. هذا ما أفشته تغريدات السبهان على امتداد الأسابيع الماضية، وهو ذاته ما تلفّظ به الحريري خلال تلاوته بيان خروجه من رئاسة الحكومة، وربما من السياسة اللبنانية برمّتها. فإعلان الاستقالة كان ليمرّ بقدر أقل من الضجيج والشرر المتطاير من العيون، لو اعتمد المستقيل الموجة القصيرة: أتقدم باستقالتي وكفى. لكن الرجل الذي اعتاد أن يعشق ترؤسه الحكومة، وأن تخونه مقاديرها مرّة بعد مرّة، ها هو يتقدّم لخيانة طموحه بلسانه، مُعلناً عداوةً جارحة مع طرف لبناني فاعل، وإقليمي باتت له مكانته في لعبة الأمم الدائرة في المنطقة، ما يعني أن الحريري طلّق بالثلاثة الكرسي الثالثة.

لم يُخطئ الرجل بل هو قام بما ينبغي عليه القيام به: قرأ البيان كما وجب أن يفعل. أما تثاقل لسانه أمام بعض العبارات عالية النبرة، فربما كان دليلاً لمن يبحث عن دليل على أنه يفعلها "مُكرهاً لا بطل". والقليل من التأتأة التي لاحقته بين الأسطر دلّت على أنه لم يُمنح الوقت الكافي للتدرّب على قراءة البيان. وهذا كلّه ليس في مصلحة العربية السعودية ولا يخدم حقاً سياستها في لبنان، بالنظر إلى الفروقات المزاجية والطبائعية الأساسية بين رجل الشارع اللبناني ومثيله السعودي أو الخليجي عموماً. فما يتقبّله السعودي من حكّامه، أي ما اعتاد أن يتقبّله وينفذ المطلوب من دون تردد ويمضي في طريقه، "لايمشي مع اللبناني" ولا يمرّ... ولئن كانت السلطات الحاكمة في المملكة تتمتع بقدر ما من التبجيل المبني على الرهبة والمهابة بحيث لا يتجرّأ مُتجرّئٌ عليها تحت طائلة أن ينتهي وراء الشمس (حسب التعبير الخليجي)، فاللبناني اعتاد أن ينشر غسيل الكبير والصغير في بلده على صنوبر بيروت.

وهذا ما لم تحسب حسابه السلطات السعودية جيداً، فجاء بيان الرئيس الحريري مليئاً بما من شأنه إقفال طُرُق العودة أمامه إلى رئاسة الحكومة، وربما إلى لبنان، حتى إشعار آخر. وهي لم تكن مطروحة البتّة حتى قبل ساعات من إعلانها، حين كان الحريري يستقبل المسؤول الإيراني علي أكبر ولايتي في السراي، ويتمنّى عليه التوسط لدى سلطات بلاده لإطلاق سراح رجل الأعمال اللبناني نزار زكّا (الذي تتهمه طهران بالتجسس لمصلحة الولايات المتحدة). وإلى دويّ الاستقالة الذي صمّ الآذان، جاءت عبارات المستقيل في بيان استقالته لتضعه على يمين السبهان في أكثر تغريداته تشدداً. فمن "أيدي إيران في المنطقة سوف تُقطع" إلى رفض "استخدام سلاح حزب الله ضد اللبنانيين والسوريين"، وصولاً إلى إعلانه عن خطر يهدد حياته مستخدماً عبارات تشي بتعرّضه أو بخشيته من التعرّض للاغتيال ..."بعد أن لمستُ ما يحاك سراً لاستهداف حياتي" كما قال، واصفاً الأجواء الراهنة بأنها "تشبه ما كان عليه الحال قبيل اغتيال رفيق الحريري".

الواقع والمعلومات والاستقصاءات الجارية حتى الآن لا تؤشر إلى اقتراب ساعة صفر ما، خلافاً لما يتخوّف البعض من حصوله. والمعادلة في هذا الأمر شديدة البساطة ويرددها أكثر من مراقب: الجهة الداخلية القادرة على إطلاق حرب، لا تريد الحرب وليست في هذا الوارد، والرؤوس الحامية في الجهة المقابلة، الراغبة في شنّ الحرب، لا تمتلك وسائل إطلاقها ولا شنّها ولا خوضها. وعلى الرغم من عدم دِقّة هذه المعادلة، إلّا أنها تعمل.

والطريف كان تساؤل الوزير الأسبق وئام وهاب وتشكيكه في أن الحريري تصرّف بإرادته، وطرحه احتمال أن يكون الرجل قد أُلزِم بأن يقول ما قاله وأنه تحت الإقامة الجبرية، لكن هذا لا يعدو كونه احتمالات دراماتيكية تصلح لسيناريوهات مُشوِّقة، إنما بعيدة عن الواقع. هذا على الرغم من أن القيادة السعودية الحالية ممثلة برجل المملكة القوي وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، قد وُصِفَت غير مرّة بالتسرِّع وباتخاذ قرارات إنفعالية أدّت بها إلى أعلى الشجرة (كما في شنّ الحرب على الخصوم في اليمن)، ولم تُحسن حتى الآن تدبّر السلّم المناسب للنزول عنها، متحمّلة خسائر مادية مُعيقة ومعنوية مُهينة سيكون من العسير تناسيها والشفاء منها.

إلا أن هذا كلّه لا يغني عن رؤية واقع السياسة السعودية اليوم، وهو المختلف جذرياً عن الطبيعة التاريخية لهذه السياسية. فلم يحصل أبداً أن ظهرت العربية السعودية من قبل بهذا الوضوح والصراحة الحاليين، ولم يسجّل التاريخ منذ نشأت المملكة تحت عباءة مؤسسها الملك عبد العزيز بن سعود، أن لعبت على المكشوف كما تفعل تحت إدارة وليّ العهد الفتي. الأمر ليس محدوداً  بالسماح للمرأة بقيادة السيارة (على الرغم مما أثاره ويثيره هذا القرار حتى الآن...) بل بالإعلان صراحة عن المواقف السياسية للعرش ونواياه المفترض أن يجعلها خفيّة. ويكفي عرض تغريدة واحدة للوزير السعودي السبهان للدلالة على أن الزمن السعودي تغيّر.

وحين تتغيّر الأزمنة، يمكن توقّع كل شيْ... بما فيه خروج الرئيس سعد الدين الحريري من عالم السياسة اللبنانية، أو حتى شن غارات جوِّية بمئات الطائرات السعودية والحليفة ضد مواقع سيقولون إنها لحزب الله في لبنان وفي سوريا أيضاً.

فالمثل الصيني يقول: عندما تخرب الآلة، فهي تخرب بأسوأ طريقة ممكنة.

لذلك اشتهر القول في لبنان: عندما تتغيّر الدُول، إحفظ رأسك.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب