السبت 2017/10/07

آخر تحديث: 00:04 (بيروت)

العونية والحريرية والفتنة

السبت 2017/10/07
العونية والحريرية والفتنة
تمتين الجسر العوني- الحريري هو الضمانة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

بين رئيسي الجمهورية والمجلس النيابي جسرٌ متين وموثوق يتمثّل بحزب الله. بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري توافق حيوي وعميق هو ما جاء بكل منهما إلى كُرسي الحكم. بين النائب وليد جنبلاط والرئيس نبيه بري تحالف مشهور هو ما يزيّن لهما أحياناً بعض المغامرات. بين الرئيس عون وسمير جعجع علاقة متذبذبة هي خُلاصة الموازنة بين المصلحة المسيحية من جهة، ومصلحة بعض الشخصيات المسيحية من الجهة المقابلة.

خلاصة ذلك كلّه وفحواه أن البلد المقسوم إلى قسمين وثلاثة وربما أكثر، محكوم بتلاقي مختلف أقسامه لضمان بقائهم وبقائه. وهذا، على علّاته، يبقى أفضل من نقيضه، ويضمن لنجومه البقاء على قيد السلطة. وحدهم "الرماديون" المترجرجون المتنقّلون صعوداً ونُزولاً بين نقطتيّ التجمّد والغليان، هم المعرّضون لبعض الخسائر التي لن يكون بوسعهم ولا بإمكان أحد آخر لا إنقاذهم منها ولا تحديد مقاديرها.

العونيون، مثل كل عاشق، لا يتقبّلون العلاقة التلاحمية بين معشوقهم (السيد حسن نصرالله وحزب الله) من جهة مع حليفه الوثيق (حركة أمل والرئيس بري)، ليس لأنهم لا يثقون بالأول بل لأن الثاني لا يثق بهم (وهو الذي صنّفهم: حليف الحليف).

بالنسبة إلى الرئيس الحريري فالذين كانوا شككوا بصوابية نقلته إلى الخانة الجديدة، كانوا يفتقدون إلى الحاسة السياسية. فهم لم يفقهوا أن الحريري في تلك الآونة كان يقف أمام التحدّي الأخير: إما أن يعود إلى السلطة رئيساً للحكومة، وإما أن يجمع حقيبته ويغادر... البلد والسياسة، وكل ما آلى على نفسه ألّا يتخلّى عنه منذ أن تنكّب مهمة "خلافة الوالد".

في النهاية، كان له ما أراد، ووصل إلى السراي مع تنازلات وجدها مقبولة. وما لبث أن لمس موقف الرئيس عون والعونية البعبداتية منه، والإيفاء بجميع الوعود التي كان نالها. وهذا ما زاده اقتراباً، وبشكل غير مسبوق، من رئيس الجمهورية وقومه.

لكن هذا التلاقي الوثيق الذي راح ينمو من دون عراضات، لم يرق البعض، ولا سيّما الرئيس بري الذي لم يغفر للرئيسين ما حبكاه في البداية خفية عنه (عبر جبران باسيل ونادر الحريري)، وهو الذي كان، منذ أمد غير قصير، قد تكرّس صمّام أمان البلد وعرّاب كل ما يجري ويدور فيه.

وهنا كانت "النقزة" الأولى والكبيرة للرجل الذي اكتشف المياه تتسلل من تحت قدميه وهو... آخر من يعلم. ولم يجد سيد ساحة النجمة غير شريك أحزان أساسي واحد هو الرئيس فؤاد السنيور... الضائق ذرعاً من جهته بما يعتبره "قفزات الحريري في الفراغ".

ولئن نجح حلف بري- السنيورة غير المعلن، في التشويش على الجمهورية الجديدة، إلّا أنه عجز عن إعاقة حركتها. والفضل بالطبع لحزب الله وللثقة الاستثنائية التي يمحضها السيد والجنرال واحدهما للآخر.

لا شك أن الاستثمار السلبي في لقاء وزيري الخارجية اللبناني والسوري، من قِبل "التشدد المستقبلي" كان من نوع الانتقام من الجدار... بضرب الرأس به، فلم يورث هؤلاء غير الألم... من دون تحقيق ما كانوا يتوخّونه.

في غمرة هذه المحلّيات الرجراجة، ارتفعت إصبع الاستدعاءات السعودية، ما فسّره البعض بأن المملكة قررت التصدّي لإيران في لبنان. اضطرب الواقفون على أعصابهم وانصرفوا إلى استشراف نيات الرياض المستجدة. ثم كانت ثالثة الأثافي متمثّلة باستفاقة الدبلوماسية السورية على الوضع اللبناني، وهي التي كانت مشغولة بمشاكلها على امتداد سنوات، ودخولها (عائدةً) على خط أحداثه، مكشوفة الرأس. ثم توالت رسائلها على ألسن أصدقائها، تارة بأن عاصمة الأمويين "عفت عمّا مضى"، وطوراً أنها باتت على استعداد لتجاوز تشنّجات المراحل السابقة والمواقف العدائية التي أعلنها غير طرف ضدّها.

هنا زالت الغمامة الحاجبة لما هو آتٍ، وأيقن المتابعون أن مغزى الاستدعاءات السعودية هو الاستعداد للانتخابات وضرورات إعادة بناء خط المواجهة الذي لا بدّ منه مع "الحالة الإيرانية" في البلد. وبالفعل، فقد وضع كل فريق نصب عينيه ضرورة إحراز أكبر قدر من المقاعد النيابية في المجلس الجديد، لكي يضمن مشاركته في ورشة إعادة تشكيل الطبقة السياسية الجديدة التي ستخرج أولاً وأساساً من صناديق الانتخابات. وإذا كان هذا الاستنتاج صائباً، يكون البلد في سبيله إلى معركة انتخابية قاسية لا بد أن تشهد كثيراً مما ألفته الساحات اللبنانية من مشاحنات ومخالفات... وربما ما هو أخطر.

وهذا يصل بنا إلى تلك الوصفة المُجسِّدة للخطر والتي وضعتها الطبقة السياسية قيد الاستعمال من أجل تثبيت سُلطانها: "شدّ العصب". بحسب هذا المفهوم وطرق تطبيقه يُباح إشعال الحرائق في لحم الناس على خلفيات طوائفية ومذهبية ومناطقية، وإطلاق جنون عبادة الزعيم، واستثمار أبالسة التشدد الديني والتعصب الزواريبي، على خلفية التفلُّت من كل أخلاق وقانون وإيمان وإنسانية (مما جرى اعتماده مراراً وتكراراً خلال العقود الماضية).

وسط هذه الظلمة الفائضة بالمخاوف، ظهرت حاجة ماسّة إلى شيء من التفاؤل، على أن يكون مبنياً على أكثر من الرغائب والتمنيات. ما يُعيدنا إلى ذلك الحرف السرّي الذي يجمع بين رئيسي الجمهورية والحكومة. فالعونية السياسية انطلقت أساساً من "بيت الشعب" كحالة تمرّد على واقع مُريع، وراحت تبني مداميكها خارج الاصطفافات الطائفية والمذهبية والدينية. في المقابل، فإن الحريرية السياسية على النموذج الذي أطلقه الرئيس- الفرصة رفيق الحريري، كانت أيضاً في توجهاتها الأصلية، عابرة للطوائف والمذاهب والأديان. وما تبقّى اليوم من العونية الصافية والحريرية في نسختها الأصلية، يكفي إلى حدّ بعيد لتبريد الصفيح الساخن الذي يقيم عليه مختلف الأفرقاء المتشددين في البلد ممن باتت ارتباطاتهم الخارجية فاقعة.

إنّ الجهد المنهجي لتمتين الجسر العوني- الحريري هو الضمانة الأساسية التي يمكن الاعتماد عليها لمحاصرة الفتن ومُحرِّكيها في موسم الانتخابات المقبل. وهذا يتطلّب بالضرورة، تمتين هذا الجسر وتدعيمه، بل توسيعه على الجانبين، من خلال استقطاب حلفاء العونية وحلفائهم من جهة، وحلفاء الحريرية والمستجيرين بها من الجهة الأخرى. وهذا يعني استمالة بري (الأمر الذي بوشر بالفعل وها هي نتائجه تظهر تباعاً)، وجنبلاط (الصامت على الوعد الحريري). وهذا، في المناسبة، لن يؤدّي إلى إعادة إنتاج الطبقة السياسية المشكوّ منها كما يتخوّف البعض، لكنه يمكن أن يؤدّي (إذا أُدير كما ينبغي)، إلى محاصرة التشدد المتربص على هامش كلٍ من العونية والحريرية.

هذه مسودّة خريطة طريق يمكن أن يتم من خلالها إعلان الجمهورية الجديدة التي ينادي بها العوني والحريري في آن واحد.

وبوجود حزب الله وحليفه الأساس في هذا الجانب، تصبح مواجهة الفتنة والمكلّفين بإثارتها، ممكنة ومضمونة النتائج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب