السبت 2024/03/23

آخر تحديث: 08:28 (بيروت)

على هامش الهوامش اللبنانية

السبت 2024/03/23
على هامش الهوامش اللبنانية
ثمّة أحزاب، ما زالت تعيش التصحّر السياسي، لأن بدائلها غير متوفرة (مصطفى جمال الدين)
increase حجم الخط decrease
 

يتداول اللبنانيون وجوه وأصوات "رجال سياسة"، يحتلون شاشات وفضاء وأثير أجهزتهم، المرئية والمسموعة، وقليلاً، ما تطالعهم كتابات بعضهم، لأن عادة "التفكير بالكلمات"، مناقضة "لفطرة" انسياق، هؤلاء الساسة، وراء عادة التفكير... بألسنتهم، والتعبير بأعضاء أجسادهم!.

منبت، معظم ساسة الإعلام الحاليين، هامشية سياسية أصلية، فهم نشأوا على ضفاف الإنشطارات الوطنية اللبنانية الكبرى، وخارج الكتل الأهلية الوازنة، وفي محاذاة التكتلات الحزبية، ذات المنشأ التمثيلي السياسي العام، بتعبيراته "اليمينية واليسارية" التي عرفتها، وعاشتها الحياة السياسية اللبنانية، حتى عشية الحرب الأهلية، عام 1975، وخلال السنوات الأولى من هذه الحرب... كان "الساسة الهوامش" أولئك، خارج السياسة بمعناها العام، وخارج دوائر الفعل فيها، ولم يُعرف "لأسمائهم ولأحزابهم" نفوذ حقيقي في معترك صناعة وجهة وقرارات الأحداث اللبنانية الصاخبة.

لم تكن "الهوامش" صنيعة ذاتها، بل جرى افتعال وجودها من قبل "اللاعبين السياسيين" الذين استراحوا إلى أحجامهم وأوزانهم، فلجأ بعضهم إلى إستنبات ملاحق تعينهم على المناورة والمشاكسة بالواسطة، وتتيح لهم الإمساك ببعض "الظاهرات الشعبية" الأحيائية، مثلما تسهّل لهم استخدامها... لقد حصد، أولئك اللاعبون، نجاحاً في ميدان مناوراتهم الهامشية، أنتج، لاحقاً، نوعاً من "الشخصيات" السياسية، "والزعامات" المحلية، التي صارت جزءاً يومياً من نمط الحراك السياسي اللبناني.

إلى جانب "الهوامش المستنسخة" تلك، نشأت هوامش "برنامجية نظرية"، انتدبت آراءها لمقارعة البرامج الحزبية والأهلية الكبرى السائدة، لقد قاد تلك الهوامش وهم "القوى البديلة"، وظنت أنها ترتقي بطروحاتها إلى مستوى إحداث الانشقاقات في صفوف وساحات الاستقطابات الكبرى... لكنها انتهت، في معظمها، إلى ما يناقض طروحاتها، وارتدت عن تحالفاتها الأولى، لترتمي في أحضان من صنفتهم خصوماً، في النظرية وفي السياسة وفي التصنيف الاجتماعي.

لقد عملت الوقائع والتطورات التي عصفت بلبنان، في صالح تلك الهوامش "المصنعة والمفتعلة"، عندما أطاحت ببنية البرامج الداخلية الكبرى، وبأوهام الذين قارعوا هذه البرامج، عن يمينها وعن يسارها... نتيجة للتطورات، التي عادلت التغييرات البنيوية الكبرى في المعادلة اللبنانية، ترنحت قوى الأحزاب الكبرى ذات البرامج، وتكفَّلت القوى الأهلية الصاعدة بوارثة جمهورها، وبالاستيلاء على ما كان لها من أدوار ووضعت اليد على الهوامش، مضيفة إليها من جعبتها "الهامشية" ما يلائم واقع الحال الجديد. لقد شهدنا انتقال الهامشيين، إلى هامش جديد، فهم لم يجدوا صعوبة في استبدال الخطب وإعادة اختيار الكلمات، طالما أن الموقع ظل إياه، وطالما أن الوظيفة لم تتغير، وطالما ان التبديل لم يحصل إلا في موقع... "أرباب العمل".

الخدمة في موقع الهامش ليست مجانية، بل إن ثمّة تبادلا للمنافع، بين طرفي "الإنتاج" يحصل بموجبه "الأجير السياسي" على بعض من ميزات النفوذ التي يتمتع بها صاحب الوكالة السياسية، كِلا َالفريقين يتوخّى الإيحاء للآخرين بأهميّة طرحه، وباتساع نفوذه، وبتعاظم جمهوره، وكل من الفريقين، يعرف بدقّة حدود اللعبة المشتركة، فيما يقتصر الالتزام بحدود التأثير، على الهامش وحده، الذي يجب أن لا يتجاوز على ما هو مرسوم له من فسحات مناورة عامة.

ثمّة صفات تكون لصيقة بالهوامش السياسية، وتشكل واحدة من مقومات وجودها. من الصفات هذه الطواعية واللا مسؤولية في القول والفعل، والطفيلية، وسرعة التقلّب بين المواضع، واحتراف العمل السياسي، بمعناه المهني- الوظيفي. تسهّل هذه الصفات الآنفة، تشكيل "الهوامش" وإعادة قولبتها، وفق مقتضيات الدور الموكل إليها، بحيث ينفخ في هذا الدور إلى ملامسة سقف الطغيان أو ينفّس إلى حدود التلاشي والنسيان. في الراهن اللبناني، أُوكِلَ إلى الهوامش دور التسلّط على السياسة، والنطق المُسفّ، الذي تأنف الكتل الأهلية الكبرى من ركوب مركبه، لكن عملية التمويه هذه، لم تعد قادرة على خداع النظر السياسي، أو زوغان السمع والذهن، عن صاحب الصوت الأصلي. الانتباه إلى ما وراء "المتكلم الهامشي" يحض على الربط بين الناطق وصاحب النّص، فإذا جرى الاحتكام إلى المثل العربي السائر، "قل لي من تعاشر أقل لك من أنت"، صار من اليسير الاستنتاج أن الأصيل يحمل الكثير من صفات الوكيل، على الأقل، لجهة عدم الأمانة السياسية، واللامسؤولية حيال المكونات الأهلية الأخرى، التي يتشكل من حاصل جمعها مدى "الوضع اللبناني"... من الهامش، نستشفّ مستوى المهّمش، ومن الحاشية نستبين مستوى الموضوع. وممّا يثير القلق، أن "الهوامش المتلفزة"، تقدم للبنانيين كخيارات سياسية، وتمثيلية! ويطلب إليهم إعادة اختيار وانتخاب "طبقتهم السياسية" من صفوف الجمهرة الناطقة، التي لا اسم سياسياً معروف لها... أي لا كتلة شعبية تنطق باسمها، ولا موقعاً اجتماعياً تدافع عن مصالحه، ولا برنامجاً وطنياً تسعى إلى تحقيقه. في الآن اللبناني، يصير ممر الاختيار محاصراً بتشكيلة أسماء، تتوزع صفاتها بين "السيئ والأسوأ والأشد سوءاً...". أي من الصفات التي لها مرادفاتها على صعد الكفاءة الوطنية، والجدارة السياسية، والنزاهة الشخصية... مرادفات تقع موضع الاغتراب عمّا هو مطروح على "الذوق السياسي" السليم.

لا تقتصر الهامشية السياسية، على مستوى الأفراد، بل هي تتعدى ذلك إلى نطاق الأحزاب، أو ما تبقى منها على صعيد الحركة الفيزيولوجية. يستقي الهامش الفرد، مادة وجوده من قوة الفرض التي تستحضره، ويستمدّ الحزب الهامشي مسوّغ استمراره، من مادتي الالتحاق بالسائد، ومن اللامبالاة السياسية والمجتمعية حيال أوضاعه. إلى ذلك فإن ثمّة أحزاب، ما زالت تعيش التصحّر السياسي، لأن بدائلها غير متوفرة. لكنها بدل أن تقرأ عجزها الفرعي، في لوحة العجز الوطني العام، تهرب إلى تضليل تمارسه الهوامش. تضليل يقول باستمرار صحة "النظرية الحزبية... التي أثبتتها الحياة!!" وعليه، فالحزب المعني يدين بالبقاء والاستمرار، للحياة التي تحالف استشرافاته الفكرية. يتناسل من منطق "الصواب الحزبي"... الدائم هذا، حركة عمليّة مؤدّاها خطاب يقيم في اللغْوِ، ونشاط يتقن التقليد والاتباع، وسهو عميق، عن أن أصل التأثير وقاعدة النفوذ، يفترضان، بداهة، حسن الانغراس في تربة اجتماعية محددة، ومن ثم إعمال الذهن في سبل رعاية وثبات مصالحها"... وسط كم "أشواك التردّي" الأهلي اللبناني وأهوال اشتباكاته.

سيكون على اللبنانيين، ولِرَدْحٍ من الزمن، أن يختاروا، بين أفراد هوامش، وأحزاب هامشية، وأن يجدّدوا البيعة من خلالهم لزعماء الطوائفيات، الذين يُؤْثِرُونَ الاحتجاب خلف براقع زاهية... لا تغيّر شيئاً من قسمات طائفياتهم البشعة، ولا تضيف إلى مسار الوطنية الأصلية، إلاّ المزيد من التعقيدات.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها