السبت 2024/03/02

آخر تحديث: 08:49 (بيروت)

لبنان: أغلبية ممتنعة وممنوعة

السبت 2024/03/02
لبنان: أغلبية ممتنعة وممنوعة
التدقيق واجب في معاني السيادة والاستقلال والمقاومة، عندما ترد على ألسنة أصحابها الحاليين(Getty)
increase حجم الخط decrease
 

يُذكّر الظرف الحالي العصيب، بظروف عصيبة لبنانية سابقة. الانقسام الراهن حول السيادة الوطنية، وحول مرجعية القرار الداخلي، وحول أشكال التحالفات، كان لها شبيهاتها في آخر عقد الخمسينات من القرن الماضي، وما زالت تكرر مضاعفاتها في العقد الثالث من القرن الحالي.

لتكن الصراحة مدخلاً إلى إعادة النقاش، في ما قيل ماضياً، وفي ما يُدْلَى به راهناً، ولتكن مكاشفة في المسكوت عنه، وفي الخطر الواضح في المنطوق به، فالضبابية انقشعت، والشعارية سقطت، وحزمة ما كان بمثابة  "بديهيات"، أو مسلّمات، كَشَفَتْ هشاشتها الممارسات المتوالية التي شاركت في صناعة يوميّاتها، كافة الأطياف اللبنانية.

لتكن البداية من رأس قائمة "الإشكالية" اللبنانية، أي من مسألة الهيمنة على حصيلة "التشكيلة" الوطنية التي أُنْشِئَتْ سنة 1920. تختصر الهيمنة السيرة الصراعية الممتدة منذ تاريخ التأسيس، ومع تطورات الأيام المجتمعية الداخلية، تناوبت على حكم الصيغة ثنائية السيطرة والهيمنة، وعندما فشلت العقود التساكنية بين اللبنانيين، في تطوير تسويات الهيمنة، بما هي وليدة قاعدة اجتماعية أوسع، وصيغة مشاركة أرحب، حلّت محلّها حالة صراعية على السيطرة بما هي بنية رسمية ذات مركز "أقلّوي"، وبما هي ذات قاعدة فئوية ضيِّقة. لقد جرى تعريف البنية والقاعدة دائماً، بما هما عليه، أي تعريفاً طائفيّاً ومذهبيّاً، وأُسقِطت صفة "الوطنية" عن المستويين، الفوقي والقاعدي، ومعهما أسقطت كل الادعاءات المتناسلة، التي نسبها المستويان إلى ممارستهما الخاصة، التي لم تتجاوز أطرها الفئوية.

من ضرورات التذكّر والتذكير، ومن دون استطراد تمحورت الحالة الصراعية الداخلية حول قضايا سياسية خلافية، تداخل فيها العاملان الداخلي والخارجي، وفي حين أمكن للداخلي أن يبقى في موقع الحالة المفهومة، والطبيعية، بين الفرقاء، مكث الخارجي في موقع التنازع، وفي موقع توليد الانقسام حول السياستين الداخلية والخارجية. هكذا يصحُّ وصف العامل الاختلافي البيني، بأنه كان ذا طابع سلمي، ويصحُّ أيضاً وصف العامل الخلافي الافتراقي الخارجي، بأنه كان ذا طابع تفجيري، لسياق الانتظام الوطني الهادئ. في هذا السياق الاستعراضي، ومن دون إطالة، لقد أكدت محطات النزاع الأهلي صحة ما ذهبنا إليه، منذ سنة 1958 وحتى اليوم الراهن، من سنة 2024. لقد كان من شأن ذلك نقل معادلة الهيمنة – السيطرة، إلى حالة الغَلَبَة المستترة، وهذه لم يتورَّع أصحابها عن نقلها إلى حالة الغَلَبَة المكشوفة، أي إلى نوع من طلب التسلّط، بالخروج على المزاج العام الغالب، وبالاستقواء على توجهاته، وبالعمل على إفشال مقارباته، ما اقترب منها جزئياً من حالة المتغلبين، أو ما ابتعد عنها ابتعاداً جوهرياً متميّزاً.

عرف اللبنانيون عدداً من محاولات التغلب والسيطرة، بعضها كانت قيادته رسمية، وبعضها جاء من وسط الصخب الأهلي، الذي أطلقته الحروب الأهلية المتتابعة.

من أبناء المحاولات التغلبيّة من فوق، كان الرئيس كميل شمعون، الذي كسرت محاولته "ثورة" 1958، ومن الأبناء كان الرئيس بشير الجميل، الذي انقطعت محاولته بالاغتيال، ومن الأبناء أيضاً، "نظام" الطائفية الذي تمسّك بغلبته وامتيازاته، فأقفل على محاولت إصلاحه من تحت، فَهَزم توازناته وامتيازاته، بحربه التي أطلقت شرارتها سنة 1975. أمّا ما بعد ذلك التاريخ، فقد غابت محاولات السيطرة التحتية، طوال أعوام الوصاية السورية، وما زالت غائبة مع انتقال ثقل الرعاية المموّهة إلى السياسة الإيرانية، وهي عادت وبلورت محاولة مستمرّة منذ سنة 2000، بقيادة المقاومة الإسلامية، بجناحيها السياسي والمقاتل، وهي، أي المحاولة، تكتسب اليوم شخصية مجسّدة ملموسة، وتنطق بخطاب سياسي واضح، وتقدم منهجاً عملياً بلا التباس يشوب سطوره. مختصر ذلك، أو موجزه، عبارة "الأمر لي"، في تسييل السياق الوطني العام في مجراه الطبيعي، أو في كبح سيلان السياق، حسب الحسابات الخاصة أولاً، وحسب القدرة على تسويقها، تالياً، في فضاء البلد العام.

لنلاحظ، أن كل غلبة كانت لها مستنداتها الخارجية، وكانت لها شعاراتها الحقيقية، التي تصير، بعد زمان فواتها، شعارية شعبوية، لا تُعْدَم جمهوراً خارج نطاق بيئتها الخاصة، التي تقتات على الشعارية، وتُقْبِلُ على نقل وترداد "مقولاتها".

المستند الأساسي للشعارية اللبنانية، كانت الفلسطينية، فهذه الأخيرة مقبولة شعبيّاً، ومفتوحة على المديين العربي والإسلامي، ولها من يناصرها ومن يدعمها شعبيّاً في بلادٍ بعيدة، كل ذلك، لأن الفلسطينية تتضمن معاني الحريّة والتحرّر والكرامة والاستقلال... ولأنها تقف على الجبهة الأمامية في الصراع ضد العدو الصهيوني الذي احتلّ فلسطين، وما زال يحتلّها، على الرغم من زوال الاستعمار من كل الجغرافيا العالمية.

توظيف الفلسطينية تناوب عليه الحكم الرسمي، في كل البلاد المسمّاة تقدمية، وعاشت على ضفافه، وفي بحره، حركات وأحزاب اشتراكية وشيوعية وقومية، وما زالت تستمدُّ نسغ الحياة والاستمرار منه، حركات إسلامية وليدة، ومتوالدة، ورِثَتْ كل الحركات الوطنية السابقة، التي انقطع نَسْلُها النضالي بعد فشل برامجها وأفكارها، وبعد سقوطها المدوّي، الذي رافق سقوط الأنظمة التي رعتها وقدّمت لها عناصر البقاء، وعناصر الاستمرار.

عودة إلى اليوم، للقول: إن حالة الاشتباك في جنوب لبنان، هي واحدة من محاولات التغلّب على مجمل الوجهة اللبنانية، بالخيار الأحادي الذي عنوانه فلسطين، وجوهره الوزن والدور والرتبة، في ثنايا التشكيلة اللبنانية، التي تضم حُكّاماً ومحكومين.

ولنقل، وبهدوء واقعي، إن سلاح المقاومة الإسلامية اللبنانية، ليس سلاح حزب، بل هو سلاح كتلة أهلية مذهبية، وهذه الكتلة، ومن دون مواربة باتت ترى في سلاح "المقاومة" ضمانة داخلية لها، أي ضمانة مصالح وسلامة وموقع ومركز حول طاولة القرار... عليه، من يطالب بتراجع هذه الكتلة، عن أدائها وعن شعارها وعن شعارياتها... على هذا المطالب أن يناقش في حقيقة هذه المصالح، وفي واقعية هذه الضمانات، وفي الضمانات البديلة، التي يمكن أن تلحظها وتقرّها أية تسوية داخلية جديدة... بإيجاز، تعالوا إلى طاولة "مصالح سواء"، ولتكن المحاذير والهواجس المتبادلة مطروحة من دون أغلفة، وليكن "الفهم السوسيولوجي" والسياسي، مدخلاً إلى إعادة فهم وتفهّم هذه الكتلة الأهلية "الطافرة".

بصراحة مستمرّة، إن الشعارات السيادية المفرطة، لا تخدم عملية إعادة صياغة السياق اللبناني، وبصراحة هادئة، مخطئ من يطالب بنزع السلاح، ومن يرفع شعار "العدو الإيراني"، ومن يدغدغ الآمال بمطلب الدولة في مواجهة الدويلة... هكذا سياسات، وهكذا شعارات، تزيد من ارتفاع الحواجز بين المدعوّين إلى حوار مسؤول، وتجعل من كل تراجع لهذا الطرف أو ذاك، تقدّماً لطرف آخر، وفي بعض الأحيان، يخشى من تحويل الخلاف السياسي إلى عداء سياسي، بسبب من السياسات الشعارية القصوى، التي لا يتورّع الجميع عن المجاهرة بعناوينها.

حالياً، ولنقل ختاماً، على المقاومة الإسلامية عدم تجاوز قواعد الاشتباك المعمول بها، وعليها، ألاّ تعطي الذريعة للعدو بتجاوز هذه القواعد، خاصةً إذا كانت المقاومة تقرأ في كتاب عدم تقديم طوق نجاة إلى حكومة الصهاينة الغارقة في تخبطها. هذا على الحدود، أما في الداخل، فعلى "الثنائي" المقاوم، تسهيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية، من مدخل تهدئة التوتر الداخلي العام، ومن مداخل إسقاط لغة الحماسة من جهة، وإسقاط لغة اتهام وتخوين القوى السياسية المناوئة، أو غير الموافقة، على سياسات الكتلة الأهلية الشيعية، من جهةٍ أخرى.

اكتمال إطار الصورة، يكون بمبادرات تهدئة من قبل من لا يقول قول "الشيعية"، خاصة من قبل "المسيحية" العامة، وفي طليعتها حزب القوات اللبنانية، ومن قبل بعض الناطقين بنثريات سيادية، في أوساط "السنيّة" العامة. النطق الهادئ من قبل هؤلاء، رافدٌ تأسيسي لسياق سياسي لبناني آخر، عماده نقاش المصالح حيث هي، ومعاينة حراك الكتل الداخلية ومصالحها، بما هي عليه، وخلع رداء الوطنية التامة الذي جرى احتكاره من قبل فريق بذاته، وفي المقابل خلع رداء المقاومة التامة، الذي بات تعريفاً حصريّاً لفريق بعينه...

ومما يجب تذكره، والتذكير به أيضاً، أن جمهوراً واسعاً من اللبنانيين لا يصدّق أبناء الوكالات الحصرية، السيادية أو المقاوماتية، لماذا؟ لأن هذا الجمهور اختبر "الوكالات"، ويعلم علم الخبير، أنها من "عدّة الشغل"، وأن ما يسود في لبنان، هو الشعار السائد في أصقاع الدنيا، ومضمونه: "في السياسة لا صداقات دائمة، ولا عداوات دائمة، بل مصالح دائمة"... وشبيه ذلك في لبنان، لا بديهيات متشكّلة، هذا قبل القول أنها دائمة، لذلك يظل التدقيق واجباً، في معاني السيادة والاستقلال والحرية والمقاومة، عندما ترد على ألسنة أصحابها الحاليين، الساعين إلى الغلبة الممتنعة والممنوعة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها