السبت 2024/01/20

آخر تحديث: 09:23 (بيروت)

حوار في المطحنة اللبنانية

السبت 2024/01/20
حوار في المطحنة اللبنانية
أثبت اللبنانيون عجزهم عن توليد التسوية، على يد قابلة لبنانية (Getty)
increase حجم الخط decrease

 

 إذا كانت المطحنة آلة طحن حبوب في المجتمع الزراعي، فهي عند اللبنانيين آلة طحن سياسي، وإذا كانت الحبوب المطحونة مصدر دقيق وطحين، فهي بين اللبنانيين مصدر قلق وإزعاج، وطحن آراء وأقوال وأقاويل...

من المعلوم أن حديث الطاحونة يدور بصوت مرتفع، بسبب من ضحيح الآلات، وغالباً ما لا يحصل التفاهم حول المراد، بسبب من تقطع التواصل الصوتي، وأحياناً بسبب من وصوله على غير الوجه الذي أرسله اللسان.

يرجع تاريخ المطحنة السياسية اللبنانية إلى زمن بناء البلد الذي ضمَّ السكان المتعددي "المصادر"، على مضض، وعلى خلاف إرادة أطياف واسعة منهم، ومنذ هاتيك الحقبة البعيدة، واللبنانيون ما زالوا متجاورين على مضضٍ ومتعددين على "افتراق".

اليوم اللبناني مثل أمسه، وعلى منوال اليوم والأمس، تدور عجلة النسيج الداخلي، الذي لمّا ينتج ثوباً ملائماً للجسد المقيم، ذي المقاسات غير الانتظامية.

المباراة بين لبنانية ولبنانية، ما زالت قائمة، والتمييز بين وطنية انتماءٍ ولا وطنية انتماء، ما زال خبز سياسة يومية، واتهام "ابن" الدار الأصيل، لابن الديار البعيدة، الدخيل، ما زال سلاحاً عند من يريد إثبات تعريف ذاته الداخلية، وإنكار ثبات تعريف الذات الداخلية للآخر، الذي يظل على مسافة ضرورية فاصلة تمنع التداخل بين "الداخليات"، وتمنع التشابه في ما بينها. منع التشابه، ومنع التداخل، أمران تحميمهما المجموعات المتوافقة على ضرورة الإقامة في التمايز، والمتوافقة على إرادة تعايش قلق، والتسليم بتساكن اضطراري مضطرب...

مواد الأمس المتفجِّرة سياسيّاً وأهليّاً، دارت حول التوازنات الداخلية، وحول مواقع أطراف التوازن في البناء الرسمي الذي يُدير منافع التوازن، ويحد من أضراره، ويحرس في الوقت ذاته مغانم أركان الطائفيات، من الرصيد الذي يشكل مجتمعاً، رأسمال النقد والاقتصاد والاجتماع والسياسة... المواد المتفجرة التي تاريخها الأمس، تعمل بحيوية ونشاط كعوامل متفجرة تحمل تاريخ اليوم، ومدار نشاط تلك العوامل، ما زالت مادة التوازنات، وما يلحق بها من نتائج على صعيد ممارسة الحكم، وتولّي الأحكام.

لقد هزّت الحرب الأهلية اللبنانية التوازن اللبناني، وخلخلت من ثمّ قواعده. حصل الاهتزاز كنتيجة طبيعية، للتبدُّلات التي عرفتها الكتل الطائفية، والتي لحقت أيضاً بالمجموعات المذهبية، ضمن كل طائفية كبرى.

لم يكن لدى اللبنانيين المفترقين في التاريخ، اللياقة الفكرية – السياسية اللازمة، لكي يتقدموا على طريق تقليص مسافة الافتراق، فوق الجغرافيا، من خلال فهم التبدلات واستيعابها، ومن ثمّ العمل بمقتضيات ما يمليه تمثل ذلك وتمثيله، في صيغ رسمية تكون كفيلة بترجمة، معدّلة ومعتدلة، لما يمكن لسيرة المجموعات أن تحمله، وأن تتحمله في الوقت ذاته. لقد صَعُبَ الأمر على المجموعات التكوينية "الممتازة"، فتصدّت لمعطيات التغيير بالخروج عليها، طلباً لكسرها، إن أتاحت الظروف مجتمعة ذلك، أو للحدِّ اللازم من آثارها، إذا لم يكن الكسر متاحاً.

بين الكسر والمنع والتطويق، لعملية التغيير ضمن بنية النظام إيّاه، غابت رؤية التسوية المستقبلية المستندة إلى ركائز "مجموعاتية" موثوقة، وحلّ محلها أداء السياسة "بالقطعة"، وإدارة اليوميات "بالترقيع"، وتمويه الهروب من نتائج العملية الاجتماعية "المنطقية"، بشعارات بائسة سياسيّاً، وتلفيقية أهليّاً، من قبيل شعار "لا غالب ولا مغلوب"، وشعار "الديمقراطية التوافقية" وشعار "لبنان بجناحيه المسلم والمسيحي"... كان كل ذلك من صنف الشعارات التي أمعنت في تكسير كل الأجنحة الطبيعية غير الاصطناعية، أي تلك التي تمكّن البلد من الإقدام على مغامرة الطيران.

تكرار المعاينة التوازنية، يقرّ بتبدّل حصل في "التكوينية" الأهلية، ويشير إلى انزياح ملموس ومرئي ومعروف، بين أطراف التكوينية.

سيظلّ مفيداً القول، إن الإسلام السياسي، مجموعاً، قد حقق نقلةً متقدمة على حساب المسيحية السياسية، مجتمعة. وسيظل ضرورياً القول، إن المارونية، ذات الترتيب الأول ضمن المسيحية، فقدت من زخم تقدمها، وإن الشيعية، حازت على نصيب أكبر من التقدم ضمن الإسلامية عموماً. حول هذا الانزياح، وحول ترجماته المختلفة في السلطة وفي الحكم، ما زالت الاشتباكات السياسية معقودة اللواء للخطاب الأعلى نبرة ضمن كل طائفة، وما زال تبادل القول والرأي، يدور في مطحنة صاخبة، حيث لا يفهم طرف على طرف، ويتعذَّر على كل منهما إدارة مناقشة ذات جدوى.

على الجادة، لقد نهضت المسيحية عموماً، على مواردها الثقافية والاقتصادية والسياسية، فكانت لها مكانتها التأسسية الكيانية، بدعم من القوى الغربية المنتصرة بعد الحرب العالمية الأولى. وجمعت الإسلامية عموماً، عناصر نهوضها بعد الاستقلال وراكمت المزيد منها، مدعومة من القوى العربية التي تصدَّرت المشهد بعد احتلال فلسطين.

عناصر الدعم الخارجية سارت عكسيّاً على صعيد الاستثمار السياسي الداخلي في لبنان، وعلى صعيد توظيفه، ضمن هياكل الحكم، وضمن الروابط الأهلية التي تميَّزت بهشاشة مستدامة. من المعلوم في هذا الميدان، أن كل تدخّل غربي في لبنان، أعطى عكس مبتغاه، على صعيد المسيحية السياسية، فلم يضف إلى نفوذها الداخلي، بل أصابه بتقلُّص ملموس، ظلّ يتنامى حتى اليوم. في موازاة ذلك، تمكّن التدخّل العربي من معاونة الإسلامية السياسية على تعديل نفوذها تعديلاً إيجابياً، من خلال اتصاله على نحوٍ أوثق بالبيئة الداخلية، ومن خلال إدارة علاقات ناجعة وناجحة عموماً مع الغرب، الذي سمح بالتعديل الجديد، وغطاه سياسيّاً، وعلى صعيد العلاقات أيضاً. أين كان الفرق بين وضع هذه الطائفية وتلك؟ كان أولاً وأساساً في استجابة البيئة، وفي خياراتها، وفي الالتفاف حول هذه الخيارات، وفي تأمين الدعم اللازم الخارجي لها، فإن تعذَّر الدعم، كان "غضّ النظر" السياسي عمّا يجري، كافياً.

لدى معاينة البيئة، التي أشير إليها، تبيّن أن الاستجابة النضالية الإسلامية، كانت خياراً ناجحاً، بدليل أمرين هامين، الأوّل، اندراجها ضمن سياق عربيّ مفتوح، والثاني، قيام السياق العربي بتوفير الغطاء الغربي، من خلال عدم معاداته للغرب، أو من خلال عقد التفاهمات معه.

هذه الميزة لم تتوفّر للمسيحية عموماً. استعراض محطات مفصلية من التاريخ الاستقلالي تنطق بذلك، وتقدم أكثر من شهادة واقعية، منذ سنة 1958 وحتى اليوم أيضاً.

ما اتصال الأمس بالحاضر الحالي؟ عدد من العوامل يشير إلى هذا الاتصال، ويعيد التشديد على مضمونه.

عامل دالٌّ أول، تعذّر ابتكار التسوية اللازمة عند بلوغ الوضع اللبناني درجة الأزمة الخطيرة. والحال، أن لبنان اليوم في أزمة عميقة.

عاملٌ ثانٍ، إثبات اللبنانيين، مرّة بعد أخرى، عجزهم عن توليد التسوية، على يد قابلة لبنانية، هذا رغم الثرثرة السياسية العالية، حول "الصناعة اللبنانية" المأمولة والمطلوبة.

عاملٌ ثالث، هو سدّ أبواب الحوار الداخلي، ونقل النقاط مواضيع الخلاف، إلى الخارج، ثم إعلاء الصوت بالسيادة والاستقلال ورفض التبعية.

عاملٌ رابع، سياسة طائفية متبادلة، تقوم على توليد البدائل المهجّنة، في عقر دار هذه الطائفة أو تلك، في محاولة "تبسيطية" للطعن بالتمثيل الطائفي الحقيقي، بالاستناد إلى أقوال وممارسات بعض "البدائل" الهزيلة، التي لا تتمتع بثقل أهلي في بيئتها، ولا تملك، عموماً، الخطاب الملائم الذي يمكن أن تخاطب به "أهلها".

على سبيل الوضوح، ومن الواقع اليومي، لا يبدو طبيعيّاً، ولا يبدو توازنيّاً، عدم انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هذا موضوع، تتحمل الإسلامية السياسية المسؤولية الأولى عنه، ويقع على الشيعية النصيب الأوفر من هذه المسؤولية.

ومن الواقع اليومي، الاستمرار في خطاب التصعيد السياسي ذاته، لحظة الاشتباك الحالي مع العدو الصهيوني، بحيث يطال التصعيد طرف "الشيعية" خاصةً، إذ ينسب إليها تعريض البلاد والعباد للخطر، وإذ يطالب بنزع سلاح مقاومتها، أي تجريدها من مصدر قوتها الأهم، في لحظة الخلاف حول كل المواضيع الداخلية. هنا أيضاً تتحمل المسيحية السياسية المسؤولية الأولى عن مندرجات الخطاب، ويحوز حزب القوات اللبنانية على النصيب الأعلى من المسؤولية.

ومن الواقع، الذي يجب أن يصير واقعاً، هو فتح القنوات الحوارية مباشرة بين كل أطراف النزاع الداخلي، بتقديم أمر رئيسي واحد على سواه من الأمور، هو: نقاش مسألة حماية لبنان من خطر اللحظة الحالية، ومن الأخطار المستقبلية، والاتفاق على عناصر هذه الحماية في كل المجالات، بما يتيحه الداخل، وبما يمكن أن يؤمنه الخارج، القريب والبعيد.

على "ميثاق الحماية" وفي سياق نصوصه، وقبل صياغة النصوص ربما، تترتب المبادرة إلى تنفيذ الأولويات الانتظامية الرئيسية الداخلية، وفي طليعتها، انتخاب رئيس للجمهورية، تكون مهمته الأولى حماية لبنان، من شرّ أعدائه، ومن "خصومات" أبنائه المستدامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها