الجمعة 2023/05/05

آخر تحديث: 11:30 (بيروت)

حرب الضحايا على الضحايا

الجمعة 2023/05/05
حرب الضحايا على الضحايا
يدفع الشعب السوري ثمن شجاعته بتمرده على النظام (Getty)
increase حجم الخط decrease

بعد اثني عشرة عاماً من اندلاع الثورة السورية، وما تبعها من أحداث جسام وبدء انعكاساتها على لبنان، استفاق المجتمع اللبناني السياسي والأهلي على وجود مشكلة النازحين السوريين في لبنان، لتصبح الشغل الشاغل لمحادثات وسائل التواصل الاجتماعي والمواقف والتحركات السياسية، وحديث ونقاشات المجتمع، مع شحنة عالية في بعض الأحيان من العنصرية الفاقعة والمريضة، في التعبير والتفكير وطرق التصرف في بعض القرى والمناطق والبلدات.
في الواقع، ما من شك أن مسالة وجود النازحين السوريين في لبنان باتت مشكلة متفاقمة، تطرح نفسها بقوة من مختلف النواحي الحياتية، وعلى وجه الخصوص الاقتصادية والاجتماعية والمالية. ولا بد من مقاربتها بعقلانية وتبصر إذا سمحت ظروف الجنون اللبناني والانحلال الإقليمي، لمواجهتها والتعاطي معها كما ينبغي.

عملياً، يدفع الشعب السوري ثمن شجاعته بتمرده على النظام العائلي الوراثي المسيطر في سوريا، والذي اعتبر منذ اللحظة الأولى للحراك أو التململ الشعبي الأول في درعا 2011، أنه بمواجهة أمراض وجراثيم تصيب جسم المجتمع السوري، حسب تعبير الدكتور بشار الأسد آنذاك. وبالتالي، يجب تدميرها والخلاص منها والقضاء عليها بأية طريقة ممكنة.

كان بإمكان النظام الحاكم يومها، أن يستوعب كل الحراك الاجتماعي والسياسي، لو أنه تصرف منذ بداية التململ، انطلاقاً من أن هناك مطالب ومظالم محقة، وأخطاء يجب الاعتراف بها والتعاطي معها ومعالجتها. لكن الذي جرى وباتت معروفة تفاصيله، أن آلة الحكم السورية القائمة على الهيبة والتراتبية العائلية الوراثية والعشائرية والمذهبية والطائفية، لا تحتمل أي خيار يمس بهذه الصورة، القائمة على حق الأمرة والتسلط المتوحش، وعدم تحمل المساومة أو التنازل ولو مقدار شعرة أو أنملة.

تصرف النظام من اللحظة الأولى للحراك الشعبي السياسي والاجتماعي، على أساس أن ما يشهده المجتمع السوري هو عبارة عن مؤامرة أميركية امبريالية غربية، تستهدف النظام الممانع، وهي امتداد للحرب الأميركية الغربية على المنطقة، بعد احتلال الولايات المتحدة العراق ووصولها إلى الحدود السورية الشرقية.

انطلاقاً من هذه الرؤية تصرف النظام بعدوانية ونكران للمشكلات، وبوحشية في التعامل مع الحراك الشعبي. بل وتعمد استدراج الحراك إلى استخدام العنف بعد إطاحته بأي إمكانية للتفاوض والإصلاح ولو الجزئي أو الشكلي.

تصرف النظام العائلي المسيطر بضيق صدره في التعاطي مع الحراك الشعبي السوري، مع تعمده إطلاق شياطين الإرهاب التكفيري من أوكاره في السجون السورية، مما دفع الحراك السوري إلى استخدام العنف المسلح للدفاع عن النفس أولاً، كرد طبيعي، ومن ثم إلى إخراج الإرهاب بطابع مذهبي، مما برر للنظام في المقابل استخدام كل أشكال العنف والتوحش دفاعاً عن سلطته، بعد أن نجح في جعل الحراك المعترض فصائل مسلحة مذهبية متناحرة ومتزاحمة للمواجهة والسيطرة، مروراً باتباع التدمير الممنهج، بأبشع وأعنف الوسائل التي عرفها تاريخ الحروب، وصولاً إلى استحداث أسلوب البراميل المتفجرة المحشوة بالنيترات، التي أبادت ودمرت وسحقت مختلف مناطق المقاومة الشعبية السورية المسلحة والمدنية.

تولى النظام تنفيذ عملية تهجير ممنهجة ومقصودة إزاء مناطق سورية محددة، باتجاه الداخل والخارج، بحثاً عن "المجتمع المتجانس"، حسب تعبير بشار الأسد. وكان من الطبيعي والمنطقي إزاء انفلات هذه الآلة الجهنمية من القتل والتدمير أن يكون الهروب كبيراً وفي كل الاتجاهات للشعب السوري، داخل سوريا وخارجها وعلى وجه التحديد تجاه دول الجوار أو البحار المحيطة، ومنها بطبيعة الحال لبنان.

مع بداية الموجة الأولى من الهروب السوري الشعبي النازح باتجاه لبنان، مورست على السلطة اللبنانية كل أشكال الضغوط والإرهاب الإعلامي والسياسي لمنعها من استقبال النازحين، والبدء بتنظيم أمورهم أو التفكير بالتعاطي معهم.

وقد اشتهرت الحملات والمواقف التي كانت تطلق من شخصيات وأحزاب وقوى محسوبة على النظام، تقول وتردد بكثافة مقولة: ما من أمر جلل في سوريا، ما تكبروا الموضوع "ما في شي في سوريا". وقد تبارت وسائل إعلام متعددة في استضافة شخصيات مقربة من النظام، تخرج لتقول على سبيل المثال: "أنا بالأمس كنت في سوريا وتجولت في كل المناطق، ولم أجد أي مظاهر مسلحة والأمور طبيعية".

من جهة أخرى، تولت القوى الموالية للنظام، إنكار أي تطور سلبي في سوريا، مع حملة لتسخيف كل من يتحدث عن حراك ثوري شعبي، في مقابل منع الحكومة اللبنانية، العاجزة أساساً، عن اتخاذ أي مبادرة للتعاطي مع موجات النزوح ومحاولة تنظيمها.

عملياً، استُقبلت موجات النزوح السوري الأولى في مناطق متعددة بتعاطف مع النازحين الهاربين من جور النظام وبطشه. وسرعان ما بدأت موجات النازحين من ضحايا التوحش تكبر وتتسع وتنتشر في كل المناطق اللبنانية.

المجتمع اللبناني استوعب في البداية موجات النزوح، بل واستغل قسماً كبيراً منها على المستوى الاقتصادي والعمراني، حيث كانت الفقاعة المالية اللبنانية التي نفختها عصابة الأشرار المصرفية بالتحالف مع المنظومة الحاكمة في أوجها.

في المقابل، وعلى المستوى الاجتماعي الاقتصادي، مرت أوقات لم يعد فيها صاحب دكان أو متجر لبناني لا يستخدم عاملاً أو طفلاً سورياً في محله للعمل، فيما يجلس هو يراقب ويوزع الأوامر والتوجيهات.

جلس قسم كبير من اللبنانيين على مقاعدهم فيما تولى السوريون العمل والخدمة بنشاط وحركة متزايدة، في كل أوجه الحياة والنشاط الاقتصادي، مع إظهار فائض من التسلط و"المراغة اللبنانية المتضخمة" بأمراض الأنا الفوقية غير المبررة.

الموجة الأولى من النزوح تم استيعابها والتعاطي معها وتأطيرها، وتحول لبنان مصدراً أساسياً لتحصيل العملات الأجنبية الصعبة والدولارات من العمال السوريين النازحين، لتحويل أموالهم وأتعابهم إلى أهاليهم في سوريا.

في هذه الأوقات، ظهر أن المعركة في سوريا تميل لصالح قوى المعارضة والتي باتت على بعد خطوات من إسقاط النظام، فكان أن استنجد بكل القوى الحليفة له قبل السقوط الوشيك. فكان استنفار عظيم تولته إيران وقواتها الموالية انطلاقاً من حزب الله "لكي لا تسبى زينب مرتين"، كما قال الشعار يومها.

لم تتأمن حماية النظام من السقوط إلا بعد دخول موجة عاصفة السوخوي الروسية إلى المعركة، لاستئناف التدمير والحماية.

بداية، لم يظهر على المجتمع اللبناني أي تأثر أو تأفف بما كان يجري، إلى أن وقعت الواقعة وانفجر البالون المالي والاقتصادي اللبناني وبدأ البنيان الكرتوني الاصطناعي والوهمي بالانهيار والتدهور.

هنا، ومع هذه الصدمة المالية النقدية وانكشاف الخدعة التي مررها قائد النظام المصرفي اللبناني المفلس "مادوف لبنان"، والنظام الحاكم، بدأ الضحايا من الشعب اللبناني الذي انقلب حاله من الوفرة إلى الندرة، ومن اليسر إلى الشح، بالانتباه والتلفت حوله والتنبه إلى أعباء النزوح السوري.

النازحون السوريون باقون في لبنان إلى أمد لا أحد يعرفه حتى الآن، وهو ليس بقصير.

الرافضون لعودتهم موزعون بين النظام أولاً، الذي ارتاح من ضغطهم ومطالبهم، ويريد الاستمرار في ترتيب أوضاع الكتل البشرية والتوزيع السكاني في سوريا، بما يخدم استمرار سلطته، الأطراف الحليفة للنظام ليس لها مصلحة بعودة النازحين أيضاً، لرغبتها ببقاء موازين القوى الداخلية كما هي، إضافة إلى الدول الغربية الممولة -والأوروبية تحديداً- لبقاء النازحين في لبنان، للاستقرار والاندماج فيه حتى لا يذهب هؤلاء إليها.

وحدها الدول العربية قد تكون صاحبة مصلحة بعودة أهل سوريا إليها. لكن تحقيق ذلك تنقصه إرادة وتصميم وفعالية، لا تبدو موجودة حتى الآن.

عملياً، أصبح ضحايا الإجرام والتوحش السوري في مواجهة ضحايا الإجرام والتوحش والفشل المالي والاقتصادي والسياسي اللبناني.

ومع اختناق الجميع بدأت تتفجر "حرب الضحايا على الضحايا"، حسب تعبير الرئيس سليم الحص، في عنوان كتابه الصادر عام 1988. على أمل أن يبقى الانفجار والمواجهة محصورة في الكلام الهوائي وليس أكثر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها