الأحد 2023/02/12

آخر تحديث: 12:55 (بيروت)

نعم للحديث "في السياسة" في ظلّ الكوارث

الأحد 2023/02/12
نعم للحديث "في السياسة" في ظلّ الكوارث
السياسة هي الأداة الوحيدة التي يملكها الضعيف لنقض مناورات القوي (Getty)
increase حجم الخط decrease

حصل الزلزال، وسقطت الكارثة على أجساد الضحايا بين سوريا وتركيا، وهيمن الخوف على سكان لبنان. في ظلّ كل ما يحصل، قد يستغربُ البعض تلك الأصوات التي تبدو وكأنها تقوم بـ"استثمارٍ سياسيٍّ"، خصوصاً بعد الأخذ بالاعتبار أنّ عدداً كبيراً من المتضررين ما زالوا تحت الأنقاض. فخلف تلك الأسماء والصور قصص الماضي وطموحات مستقبلية دُمرّت في لحظة الكارثة. لهؤلاء المتضررون أحلامٌ بحياةٍ أفضل من الحروب والفقر والأزمات الاقتصادية والسياسية المستمرّة.

ننظرُ إلى المشهدِ بوضوحٍ أكثر فأكثر عندما نرسم السيرة السورية الجماعية التي ضمّت الثورة والقمع والبراميل والكيماوي والتضخّم وعنصرية بلاد الجوار والعقبات الدولية والإقليمية المتتالية. ففي واقعٍ كهذا، لماذا الإصرار على "السياسة"؟ الجوابُ واضحٌ وذو أوجه عدة: السياسة كمدخلٍ لاستغلال الكوارث (والردّ على ذلك في السياسة أيضاً)، والسياسة كمدخل لإدارة الكوارث، والسياسة كمدخل للتمسك بالأمل.

السياسة بهدف استغلال الكوارث
في هذا السياق بالذات، لا نتحدث عن سياسة الحركات الاجتماعية الجديدة، بل عن سياسة الأنظمة التي عرفناها وعرفنا دورها في كسر طاقات شعوبها. يمثّل النظام السوري هذا النموذج من الحكم الذي استخدم كل الأدوات المتاحة لقتل الثورة وإحياء الثورة المضادة، لجعل آلة القتل المخابراتية التي يملكُها أداة الإنقاذ الوحيدة لضمان "استقرار البلد". سقط النظام في نشر سرديته رغم بعض الداعمين بين الداخل والاغتراب، ولكن حلفاءه في المنطقة قدموا الضمانة العسكرية التي ارتكزت على احتلال إيراني في البرّ واحتلال روسي في الجو.

رُغم حفاظ نظام بشار الأسد على سلطته على جزء من الأراضي السورية، شكّلت العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة حسب قانون "قيصر" عائقاً أساسياً أمام قدرة النظام على إعادة إنتاج شبكاته الاقتصادية الإقليمية والعالمية. اليوم، ينطلق داعمو النظام بمناورتهم "السياسية" الجديدة: ربط التداعيات الإنسانية لهذه الكارثة بالعقوبات، ونشر سردية جديدة تثبّت مظلومية النظام وتهدف إلى حصر النقاش بملف العقوبات عند أصحاب القرار والتأثير في الحكومات "الغربية" والمؤسسات الدولية.

ولكن الردّ السوري المعارض على مواقع التواصل كان واضحاً. فبغض النظر عن الموقف من العقوبات، قانون "قيصر" لا يشمل المساعدات والأنشطة الإنسانية، بل أن النظام منع تواجد بعض حملات ومنظمات الإغاثة على الأراضي التي يسيطر عليها. لذلك، الردّ على السؤال "لماذا نتحدث في السياسة؟" هو الردّ نفسه في كلّ الحالات وفي كلّ سياق: الأنظمة وسياساتها هي بحدّ ذاتها عبارة عن تعابير سياسية مستمرة لحماية مصالحها. وداعمو النظام السوري هم الذين انطلقوا بالمسرحية السياسية عندما انتهزوا الفرصة بعد الزلزال. فالردّ على هؤلاء الانتهازيين يجب أن يمثّل ردّاً سياسياً يوضّح طبيعة الصراع في سوريا وموقع نظام الاستبداد منه.

السياسة كمدخلٍ لإدارة الكوارث
من افتعل الزلزال؟ حسب النظرية العلمية، لا أحد! فهي نتيجة "طبيعية" لسلسلة من الاهتزازات الارتجاجية المتتالية لسطح الأرض. أما النظرية الدينية، فتعتمد على مفهوم "العقاب الإلهي". وهذه النظرية ليست تفصيلاً، نظراً لتأثيرها عند الأطفال الذين تعلّموا أن "البشرية" لم ترتقِ إلى المستوى الأخلاقي والإنساني المطلوب. الأزمة في النظرية الأولى هي إلغاء مسؤولية "ما بعد الكارثة"، أي مسؤولية كلّ من يملك القوة والمال في المجتمع لإنقاذ المتضررين. أما النظرية الثانية، فترتكز على إلغاء الفرق بين "الظالم والمظلوم"، بين "القوي والضعيف".

في المقابل، النظرية السياسية تستند على مفهوم "الدولة" كجهاز "تدخلّي" يعتبر نفسه مسؤولاً عن أمان المقيمين. خلال الحرب، تدخّل النظام السوري لصالح نفسه فقط، ودمّر البنى التحتية التي يحتاجها المجتمع خلال هذه الكوارث. الأسد وعائلته الواسعة يملكون مليارات الدولارات، أما الاقتصاد السوري، فيشهد تراجعاً قياسياً حيث يتم تسخير موارد الدولة كاملةً في خدمة العسكر.

هذه الظروف تفرض على الدولة مهام جديدة لحماية المجتمع، ولا مكان لهذه الدولة من دون التحدّث عن السياسة في ظلّ الكوارث. فهذه المهام تضمّ: استخدام الأبحاث التي تنذر بزلازل المحتملة، الاستثمار في البنى التحتية المناسبة بين المنازل والبنايات لاستيعاب الهاربين (كالحدائق العامة)، تطوير النظام التربوي كي يضمن تطبيق قواعد السلامة عند الأطفال عبر التدريبات الدورية (كحقيبة الطوارئ الخاصة بالكوارث)، تعزيز دور وميزانية جهاز الدفاع المدني، بالإضافة إلى تطبيق سلّة واسعة من الإجراءات الإدارية التي تُعتمد في دول عديدة قد تقع ضمن المناطق المهددة.

السياسة كمدخل للتمسك بالأمل
السياسة ليست محصورة بالأدوات التي يستخدمها القوي لانتهاز الفرص، وهي ليست عبارة عن إجراءات إدارية وتقنية مهمة. من جهة، السياسة، حتى بالمعنى الخطابي، هي الأداة الوحيدة التي يملكها الضعيف لنقض مناورات القوي. من جهة أخرى، السياسة هي المدخل الوحيد لتعريف الدولة وأدوارها، أي هي مدخلٌ لرسم دولة المستقبل وتحديد دورها نسبةً لإدارة موارد المجتمع.

"حياة الناس أولوية". جملةٌ سياسيةٌ بامتياز. فما هي القوى السياسية والأنظمة المتفقة عليها؟ النظام السوري حرق المدن والقرى لسنين، والنظام اللبناني يخطط لبيع أصول الدولة وتدمير المؤسسات العامة كاملةً. نعم، حياة الناس أولوية، والتخطيط السياسي الذي يبدأ بالخطاب وينتهي بالدولة هو الممر الوحيد لإيجاد أنظمة بديلة قد تعترف بهذه الجملة، لفظاً وتطبيقاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها