الإثنين 2022/11/28

آخر تحديث: 09:21 (بيروت)

بين لبنان والعالم: أي يسار لا نريد؟

الإثنين 2022/11/28
بين لبنان والعالم: أي يسار لا نريد؟
بين الأخلاق والتكتيك ابتعدت مجموعات اليسار عن "لغة المجتمع"، وتحديداً لغة فئاته المهمشة!
increase حجم الخط decrease
 
"استرجعنا البرازيل!"، قال أحد رفاقي في لبنان، مشيراً إلى انتصار لولا دا سيلفا في آخر انتخابات رئاسية. يأتي الاستحقاق الانتخابي في البرازيل في سياق صراع شرس بين قوى "اليسار" و"اليمين" على المستوى العالمي. ولكن يحمل هذا الصراع اليوم تبعات جديدة نظراً للتصعيد العنصري والانعزالي الذي يهدف إلى إعادة تعزيز الهويات المغلقة. يتجسّد هذا التصعيد بنغمة اجتماعية "محافظة" معادية لللاجئين والمهاجرين والمرأة والتحرر الجندري والجنسي، ونغمة اقتصادية نيوليبرالية معادية لحقوق العمال والسياسات التي قد تحمي البيئة في ظلّ مخاطر جدية تخصّ تغيّر المناخ.

في الولايات المتحدة وأوروبا وأميركا اللاتينية، نرى صراعاً واضحاً بين تيار يساري بمختلف ألوانه الراديكالية والوسطية من جهة، وتيار يميني يزدادُ تطرّفاً من جهةٍ أخرى، ولا التباس في صراعٍ مصيري على كافة المستويات الاجتماعية والإقتصادية والسياسية.

أين لبنان أثناء هذه المستجدات؟ أين يساره ويمينه؟ نرى في دول عالم الجنوب تحدياتٍ خاصة للتيارات البديلة عن أنظمة الحُكم القائمة، وتزداد خصوصية السؤال "أي يسار نريد؟" في العالم العربي. وتزداد هذه الخصوصية أكثر فأكثر تحت أنظمة طائفية في مركزها ديكتاتوريات صغرى تترافق مع عنف مليشياوي ومصالح مصرفية. هذه التحديات تختلف عن المسائل التي تُناقش في يسار "الغرب". بالرغم من هذه الخصوصية، يبقى السؤال "أي يسار نريد؟" في صلب نقاش الحركة الاعتراضية في لبنان، وتحديداً الشق "الديمقراطي والتقدمي" منها. أما اليوم، نحاول الإجابة على سؤالٍ عكسي: فأي يسار لا نريد؟ أين الأزمة في خيارات اليسار التنظيمية والخطابية والاستراتيجية؟

يسار اللا-تنظيم
النظام الزعاماتي في لبنان هو أولاً بنية اجتماعية ليست محصورة بغرف الحُكم، بل تعيد هذه البنية إنتاج نفسها في حركةٍ الاعتراضيةٍ تمحورت جزئياً حول شخصيات، ومنها شخصيات يسارية (أو من "خلفية يسارية") ترشّحت على الانتخابات النيابية هذه السنة. في تشيلي والبرازيل والولايات المتحدة، تعرّفنا على يسارٍ يتمتّع بثقافة مؤسساتية نظّمت النشاط الانتخابي والثقافي والعمل المباشر. في لبنان، شهدنا "مجموعاتٍ" استبدلت التنظيم بالشخص؛ قد يكون الشخص "تنظيمياً"، وقد يكون "مرشّحاً"، ولكن بالتأكيد اعتباراته تعاني من خلل الشخصنة، حيث تبدو المؤسسة غائبة عن أولوياته.

يسار الهويات
بالرغم من "مميزات" الحالة اللبنانية، نرى تقاطعات في الفكر والممارسة مع اليسار العالمي على مستوياتٍ عدة، ومنها دور "سياسة الهوية" في عملية استقطاب فئات مجتمعية مختلفة، وبالتالي عملية تهميش الهويات "الجامعة" (كالهوية الطبقية). ففي الولايات المتحدة، تصاعدت لغة الهويات المتناقضة، وقد شهد اليسار هناك نقاشاً داخلياً حادّاً حول دور الهوية في تحديد الأولويات السياسية والأخلاقية، فمواضيع تتمحور حول نظام الكوتا والمساحة الآمنة والخصوصية الثقافية والإسلاموفوبيا و"ثقافة الإلغاء" إلخ.. شجّعت الفرز التنظيمي والثقافي ضمن التيارات اليسارية نفسها.

في لبنان، للهويات الطائفية ترجمات "تقسيمية" بين تنظيمات المعارضة، ويظهر هذا الانقسام مع تناول هذه الحركات لقضايا الاقتصاد والسيادة والفدرالية. وبالتوازي، في "زواريب" اليسار الضيقة، تنبع نفس التساؤلات النقدية العالمية حول الممارسة والتنظيم التي ذكرناها أعلاه. ولكن النقد الداخلي المشروع قد يتحول إلى شخصنة هوياتية مطلقة، أي شخصنة قد تلغي الحركة بحدّ ذاتها!

يسار التخبط بين "الإستراتيجيا" والأخلاقوية
منذ بداية الحرب الأهلية، وضع اليسار نفسه ضمن الاصطفاف الطائفي و"السلطوي" الذي شهدته السياسة اللبنانية. من الخيار "الإسلامي" أثناء الحرب إلى انقسام ١٤ و٨ بعد انتفاضة الإستقلال نظراً للموقف من النظام السوري والثورة السورية، فقد اليسار قدرته على تخيّل بديلٍ عن الهيمنة الطاغية، بالرغم من شجاعة كوادره ومفكّريه في وجه الاحتلالات والسلطات المحلية المخابراتية القاتلة.
بعد سنة 2011، إنضم عدد من قوى وشخصيات "اليسار" إلى حالة أوسع بدأت تتطور كحالة اعتراضية لا-طائفية ضد "السلطة". تطورت هذه الحالة مع السنين،  بدأت بحركة إسقاط النظام الطائفي (2011) وأستكملت بحملات "لا للتمديد" (2013) و"طلعت ريحتكم" (2015)، تمهيداً للدور الذي لعبته هذه الحالة في انتفاضة 17 تشرين، 2019. من هنا، بدأ يتبلور قطب لا طائفي رافض للتحالف أو الاحتكاك السياسي الرسمي مع قوى تاريخية اقطاعية أو طائفية، وتطوّر الموقف حيث رأينا من رفض التحالف مع الذي قبل بالتحالف! انقسمت "المعارضة"، وبرز موقف "أخلاقوي" واسع أراد الحفاظ على خطابه السياسي على حساب التفاعل مع عدد كبير من الفئات الشعبية التي قد يكون لديها أولويات مختلفة.
في المقابل، توجهت بعض التنظيمات والشخصيات إلى القيام بتحالفات واسعة مع تيارات تقليدية طائفية أو نيوليبرالية تحت شعار "الوحدة" كخيار "استراتيجي". ولكن تجاهلت هذه القوى أزمة موازين القوى، وبالتالي تصرفت مع "الوحدة" بطريقة جامدة، غير مدركة لتفاعل فئات شعبية واسعة مع هذا الخيار، ولتداعيات خسارة هذا اليسار لهويته وخطابه في الساحة السياسية والإعلامية.

بين "الأخلاق" و"التكتيك"، لم يحسم اليسار خارطة الطريق، وتعاملت مجموعاته وأفراده مع هذه الأسئلة بحسب اعتباراتهم الإنتخابية الضيقة، أو بحسب موقفهم الفردي البعيد عن "لغة المجتمع"، وتحديداً لغة فئاته المهمشة!

سؤال مفتوح: أي يسار نريد؟
تحليل هذه الخيارات (الوحدة أو الفرز) وكأنها جزء من "حالة لبنانية" فريدة من نوعها هو تحليل ناقص وخاطئ، بالرغم من الخصوصية الجزئية لهذه الحالة. فاليسار العالمي ككل يُناقش مسألة التحالفات، وتحديداً مع قوى غير يسارية، وهناك نجاحات بدأت بالفرز وانتهت بالتكتيك، والعكس صحيح. ولكن الأسئلة الغائبة لبنانياً هي: ما الخطوات التي تضع اليسار، في شقّه الديمقراطي طبعاً، في موقع أقوى مجتمعياً وسياسياً؟ ما هو المطلوب لفرض واقع حيث يكون هذا اليسار جزءاً من التاريخ وليس خارجه، من دون أن يفقد طرحه وهويته؟ لا جوابَ نهائياً لهذه الأسئلة، ولكن بالتأكيد سنجده في غرف الاجتماعات وساحات الشارع المرهقة. الله يعطيكم العافية، يا رفاق.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها