الأحد 2022/12/25

آخر تحديث: 12:12 (بيروت)

قتل الجندي الإيرلندي وأحكام الإعدام بإيران: قاموس العنف السياسي‎‎

الأحد 2022/12/25
قتل الجندي الإيرلندي وأحكام الإعدام بإيران: قاموس العنف السياسي‎‎
أدوات حزب الله الثقافية وسردياته التخويفية أخطر من قوّة سلاحه (المدن)
increase حجم الخط decrease

في 14 كانون الأول، قُتل عنصر من قوّة الأمم المتّحدة الموقّتة في لبنان (اليونيفيل) هو الجندي الإيرلندي شون روني، في منطقة العاقبية في الجنوب، وسقط معه ثلاث جرحى من كتيبته الإيرلندية. قالت القوات المسلحة الإيرلندية عبر منصّة تويتر إن جنودها تعرّضوا لنيران من أسلحة خفيفة. وأوضّحت قوات اليونيفيل في بيانها مباشرةً أنّ "التفاصيل متفرقة ومتضاربة". بعدها، سمعنا سلسلة من الإدانات، من رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وعدد كبير من الأحزاب والتيارات وبعض جهات "المجتمع الدولي"، وحتى حزب الله قدّم التعزية لقوات اليونيفيل.

أسئلة وتوقعات
يُقال إنّ التحقيقات مستمرّة ولكنها "معقدّة". فهل يتعاون حزب الله؟ وهل سيُرفع الغطاء عن "الأهالي" المسؤولين عن الحادثة؟ حسب بعض التقارير والمعطيات الراهنة، المؤشرات غير إيجابية. وإذا كان الهدف هو الوصول إلى نتيجة قضائية ملموسة، فتوقعات المعنيين في اليونيفيل والقوات الإيرلندية متشائمة.

قد تكون هذه الأسئلة والتوقعات أساسية وبديهية في بلدٍ يسود فيه أقل من الحد الأدنى من المساواة السياسية. ولكن في سياقنا هذا، أصبح تكرار هذه الأخبار مملّاً للمُشاهد اللبناني. فقد استكملنا حياتَنا الطبيعية كالعادة بعد بضعة ساعاتٍ من الحادثة، ونسينا أننا نعيشُ في وطن طُبّع بالعنف بعدما فُرض عليه. طبعاً، حزب الله يتبرأ من "الحادثة". وطبعاً، "الحادثة" هي "مَشكل بين طرفيْن". وللأسف عملية القتل هذه من قبل "الأهالي" (أي أحد الأطراف) "غير مقصودة"، بالرغم من المعلومات التي تشير إلى إطلاق رصاص مباشر ومتعمّد وملاحقة طويلة.

في أوساط "بيئة المقاومة" في جنوب لبنان، نسمعُ النغمةَ نفسها باستمرارٍ: حادثة. أهالي. غير مقصودة. حادثة. أهالي. غير مقصودة... أما اليونيفيل، فتُعتبر في هذه البيئة "شريكة المؤامرات" التي ضربت حزب الله منذ التحرير سنة 2000. فهذه بعض المصطلحات والسرديات و"اللغويات التخويفية" التي نجدها في قاموس "العنف السياسي". وحزب الله اليوم من اللاعبين الذي ختم الكتاب وزاد على نصوصه في التراجيديا اللبنانية. ولكن من أين يأتي العنف السياسي؟ الجواب البديهي قد يكون السلاح، ولكنه نصف الجواب. فآلة القتل التي تقود حفلة الإعدام ضد ثوار إيران اليوم تزودنا بقراءةٍ عن خصوصية "قاموس العنف" عند محور إيران-سوريا-حزب الله.

النظام الإيراني وعنف الدولة: مصدر إلهام مستمرّ
أصبحت أحكام الإعدام من قبل السلطات الايرانية في الشهر الأخير بالعشرات. ومن أبرز الضحايا محسن شيكاري ومجيد رضا رهنورد، وهما من الذين شاركوا في الحراك الشعبي الواسع الذي يحصل في إيران. "مكافحة الشغب، حماية الأمن القومي، التصدّي للعدو، الحفاظ على ثقافتنا". هذه بعض المصطلحات التي استخدمت في "قاموس العنف"، ولا فرق بين قاموس خامنئي وقاموس الأسد بعد الثورة السورية سنة 2011، حتى ولو كانت الخلفية العقائدية تختلف بين سياق وآخر. 

من هذا المنطلق، تقييمنا لخيارات حزب الله العنفية ليس مكتملاً من دون قراءة الإيديولوجية المسيطرة في إيران. تحدثت قوى 14 آذار تاريخياً عن العلاقة الأمنية بين القوّتيْن، ولكن هذه القراءة ناقصة بسبب غياب بُعد تحليلي أساسي: فرضيات الفكر السياسي ليست محصورةً بأوطان "الأصل"، ففي عالمنا المعاصر، الفرضيات التي تقف وراء الديمقراطية أو الاستبداد هي عابرة للأوطان. ثوّار إيران انطلقوا بفرضياتهم، والنظام ردّ بفرضياته. ثوّار إيران قالوا نعم للحرية والفرد والفرح، والنظام ردّ بالشمل والجماعة و"المقاومة" و"الوطن" والتقليد والدين. فما العلاقة بين حكم الإعدام في الجمهورية الإسلامية وعملية اغتيال في جنوب لبنان؟

حزب الله وفرضيات العنف المستوردة 
في المقابل، حزب الله ليس قادراً على "الإعلان" عن أحكام الإعدام في لبنان، ولكنه يستطيع تنفيذ الحكم، وأيضاً لديه القدرة على نشر تلك "الفرضيات" على مدار السنين. فحزب الله "لم يغتل لقمان سليم، ولكن لقمان سليم عميلٌ يستحق الموت"؛ وحزب الله "لم يغتل وسام الحسن، ولكن وسام الحسن رجلٌ أمنيّ مشبوهٌ ذو ارتباطات مع قوى خارجية امبريالية"؛ ولا دخل لفريق حزب الله "فيما يخصّ اغتيال سمير قصير، ولكن سمير قصير انحرف عن مشروع التحرر الوطني وتحوّل إلى يسار باريس وواشنطن". 

أمّا بالنسبة لحادثة قتل الجندي الإيرلندي، "فلا علاقة لحزب الله، ولكن الأهالي يعرفون مصلحتهم، ونعرف جيداً أنّ اليونيفيل تتعامل مع العدو الإسرائيلي". ليس من السهل إثبات تلك الفرضيات، ولكنها موجودةً في الأذهان رُغم الشكّ. حزب الله وحده ليس صاحب تلك الفرضيات، فمصدر إلهامه في طهران. وخامنئي وحده ليس أصل تلك الفرضيات، فالأنظمة التوتاليتارية والفاشية في التاريخ هي مدرسة في هذا المجال.

البراغماتية كمنطلق آخر للعنف
بالرغم من الدور البارز الذي تلعبه تلك الفرضيات "الأخلاقية"، حزب الله ليس "شرطة أخلاق" بالمطلق. بالنسبة لعدد كبير من المحللين، ممارسة حزب الله العقائدية اليوم لا تشبه سلوكه السياسي منذ 40 سنة. وهنا نرى الفرق بين رسالته المفتوحة سنة 1985 والورقة السياسية التي أطلقها سنة 2009. من الاعتراف المباشر بالكيان اللبناني إلى الشروط التعجيزية لفرض "نظام إسلامي" في لبنان.. كثرَت التحليلات التي تمحورت حول "لبننة" حزب الله كتيّار سياسي، أي تحوّله من "جناح الثورة الإسلامية في لبنان" إلى "حزب إسلامي محلي لبناني". 

مثّلت هذه التحليلات تقدّماً أساسياً في سياق طغيان منهج أكاديمي استشراقي قديم، نمّط الحركات الإسلامية، وافترض أنّ تلك الحركات لا تستطيع أن تتعايش مع الدولة المؤسساتية بمفهومها الحديث. ولكن قد يعتقد البعض أنّ "براغماتية" حزب الله تنفي "عنفه"، وأنّ "لبننته" تؤكّد انحيازه لفرضيات "سيادية لبنانية". في الواقع، قاموس حزب الله أثبت إمكانية التعايش بين "اللبننة" والعنف. 

حماية الوطن أصبح الهدف.. أي "حمايته" من التطرف السنّي عبر التحالف مع الإجرام الأسدي، و"حمايته" من الانحراف "التطبيعي" عبر اغتيال المفكّر لقمان سليم... وقد "يحمي الوطن" أيضاً عبر قتل الشاب الجندي في اليونيفيل شون روني. على هذا الأساس، "البراغماتية بهدف حماية الوطن" هي فرضية إضافية وراء العنف المستدام، وقد تُبرّر أفظع الجرائم والتحالفات مع أعتى الأنظمة.

أخيراً، أدوات حزب الله الثقافية وسردياته التخويفية أخطر من قوّة سلاحه، فهي التي تقدّم السياق السياسي وراء تلك الجرائم نفسها، حتى ولو لم يرتكبها هو بل "الأهالي".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها