الثلاثاء 2023/01/31

آخر تحديث: 10:55 (بيروت)

من يصنع استقلالية القضاء في لبنان؟

الثلاثاء 2023/01/31
من يصنع استقلالية القضاء في لبنان؟
على عاتق القضاة اللبنانيين أن يحرصوا على انتزاع استقلاليتهم (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

في الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة تفاعلات المواقف التي صدرت عن النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمحقق العدلي طارق البيطار، وانقسام الشارع اللبناني بين مؤيد ومعارض تجاه كل منهما، وتباين المواقف السياسية تجاه سائر التحقيقات الجارية بالنسبة لهذا الملف الدقيق والحساس، المتعلق بجريمة انفجار مرفأ بيروت، التي لا يجوز الاستهانة بشأنها من قبل المراجع الإدارية والقضائية المختصة من جهة، ومن قبل ممثلي القوى والمكونات السياسية اللبنانية في لبنان على اختلاف تنوعها من جهة أخرى، نظراً لما لهذا الملف من انعكاس سلبي على الانتظام العام لمؤسسات الدولة الدستورية، وعلى الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي العام، وعلى أهالي ضحايا انفجار المرفأ وأوضاعهم الإنسانية والحقوقية والنفسية، في واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية حصلت في هذا العصر، وعلى جميع من تضرر جراء هذا الانفجار.

إن هذه القضية تطرح أمام الرأي العام اللبناني والدولي عدة تساؤلات، هي في غاية الأهمي،ة نظراً لما تمر به البلاد من أزمات متفاقمة، أو نظراً لهول هذه الجريمة التي لا يمكن السكوت عنها على مختلف الأصعدة، وهي التالية:

أولاً: هل تأخذ التحقيقات الجارية في هذه الجريمة مسارها الصحيح؟
بصرف النظر عن أساليب الإعتراض والعرقلة السياسية التي ووجه بها تكليف المحققين العدليين، القاضي فادي صوان والقاضي طارق البيطار، خشية أن تأخذ هذه التحقيقات مساراً قد لا يرضي فريقاً سياسياً ما، يعتبر نفسه مستهدفاُ جراء التحقيقات الجارية، ومن أجل أن ينجح القضاء اللبناني في هذه القضية الدقيقة والبالغة الخطورة، ينبغي أساساً عدم التدخل السياسي من أية جهة كانت داخلية أو خارجية في مجريات التحقيق، للحفاظ على عنصري الحيادية والموضوعية، وحفاظاً على استقلالية القضاء بالاستناد إلى الفقرة (هـ) من مقدمة الدستور، باعتبار أن النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها ووفقاً للمادة 20 من الدستور، التي اعتبرت القضاة مستقلين في إجراء وظيفتهم، ويصدرون الأحكام باسم الشعب اللبناني ضمن الأصول والإجراءات القانونية التي تحفظ لهم الضمانات اللازمة، حال التزامهم المجرد بأحكام القانون وأصول المحاكمة. ولا بد هنا من الإشارة إلى المواقف السلبية التي اتخذها النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات باتخاذ قرار إخلاء سبيل جميع الموقوفين في قضية إنفجار المرفأ، ومنعهم من السفر وهو في وضعية التنحي عن هذا الملف لأسباب قانونية ثابتة، والمتمثلة بعنصر القرابة بينه وبين أحد المتهمين من الوزراء السابقين المشمولين بهذا الملف، مما شكل حالة "اغتصاب للسلطة" أساءت من دون شك إلى مسار التحقيقات الجارية، وأقلقت أهالي الضحايا على مصير قضيتهم المحقة والعادلة، كما أثارت الرأي العام اللبناني على أكثر من صعيد.

أما بالنسبة للقاضي طارق البيطار، فضلاً عن التزامه الصارم والدقيق بمتابعة هذا الملف حتى النهاية، فقد ارتكب خطأين في مسار هذه التحقيقات، فهو استدعى في مذكرة التوقيف الأخيرة موظفين من الفئة الأولى الإدارية والعسكرية، من دون اتباع الإجراءات الأصولية اللازمة بأخذ "إذن الملاحقة" بشأنهم من الوزراء المختصين بصورة مسبقة وفقاً للقانون، كما عاد إلى ممارسة عمله كمحقق عدلي متجاوزاً طلبات الرد أو كف اليد من دون العودة إلى المجلس العدلي أو مجلس القضاء الأعلى، متذرعاً بمطالعة قانونية أعدها بنفسه خلال ثلاثة عشر شهراً فائتاً من تجميد التحقيقات، وأنه بصرف النظر عن صوابية أو عدم صوابية هذه المراجعة القيّمة، فإن الأصول الإجرائية للعودة إلى مكتبه وممارسة عمله وصلاحياته لن تكون بقرار فردي منه، بعد فترة كف اليد بمعزل عن الجسم القضائي الذي ينتمي إليه، لا سيما المجلس العدلي وإشراف المجلس الأعلى للقضاء، وذلك حرصاً على سلامة الإجراءات التي تجعل ملف التحقيق بمنأى عن طلبات الرد المتكررة، والتي تمثلت غالباً بمحاولات عرقلة سير التحقيق في هذا الملف، ومحاولة إفشاله والتخلص منه.

ثانياً: من هي المرجعية التي تعود إليها صلاحية تقويم مسار التحقيق؟
لا يخفى ما للمحقق العدلي من امتيازات خارقة في ملف التحقيق التي تصل إلى مستوى الحصانة شبه المطلقة من أجل تمكينه من السير بالتحقيقات بالسرعة اللازمة، ومن أجل التوصل لإصدار قراره الظني أو الاتهامي وإحالته على المجلس العدلي، استكمالاً لسير التحقيقات والبت بالقضية وفقاً للأصول في هذا النوع من المحاكم ذات الطابع الاستثنائي، علماً بأن المحقق العدلي هو من أحد أعضائه المؤلف قانوناً، وأن باستطاعة هذا المجلس أن يطلع على مضمون القرار الظني، وأن يطلب إعادة النظر به أو التوسع بالتحقيق أو الإضاءة على بعض ثغراته المادية أو القانونية، ما يشكل ضمانة أولية لعدم التسرع أو الوقوع في الخطأ إزاء ذلك، فإن المرجع المختص بالنظر بتلك التباينات أو المخالفات الإجرائية والقانونية التي ارتكبها القاضيان عويدات والبيطار، هو مجلس القضاء الأعلى ذات الصلاحية، والذي يتوجب عليه عدم الإبطاء باتخاذ القرار المناسب، من أجل تصويب مسار التحقيق واستكماله بالسرعة اللازمة، تداركاً للمزيد من التداعيات السلبية وإنصافاً للعدالة والحقيقة، وإبعاد القضاء عن التجاذبات السياسية المدمرة، وحرصاً على استقلالية الجسم القضائي في عمله، وفقاً للدستور وللأصول القانونية المرعية الإجراء.

ثالثاً: هل ينبغي الاحتكام إلى القضاء الخاص الدولي في هذه القضية؟
إذا كان القصد من ذلك هو إبعاد يد السياسيين عن هذا الملف، فإن التجارب السابقة وبالأخص قضية جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري، لم تعط النتائج المرجوة منها بالشكل المطلوب للإضاءة على الحقيقة كاملة، بالإضافة إلى إضاعة المزيد من الوقت والكلفة الباهظة على الخزينة العامة اللبنانية. لذلك لا بد من الاعتماد على القضاء اللبناني صاحب الصلاحية الأساسية في هذه القضية الداخلية لاستكمال هذه التحقيقات حتى خواتيمها، والاستعانة حيث أمكن بالخبرات والمعلومات الفنية والأمنية والتقنية من أصدقاء لبنان في الخارج، من أجل إغناء التحقيقات بالحقائق القانونية والعلمية الدامغة، من أجل الوصول إلى الحقيقة في هذا الملف، وإنصاف أهالي الضحايا المفجوعين، وعشرات الآلاف من المتضررين، وإعادة الثقة بالوطن وأمنه وقضائه المستقل، ومن أجل الحفاظ على استقلالية القضاء في لبنان.

رابعاً: كيف يمكن التوصل إلى قضاء مستقل في لبنان؟
لقد اجتهد قضاة مجلس الدولة والمحاكم الإدارية في فرنسا بعد نجاح الثورة الفرنسية، التي حملت شعارات ومبادىء الحرية والعدالة والمساواة، ومبدأ الفصل بين السلطات، زهاء ما ينيف عن ثمانين عاماً، حتى توصلوا إلى تحرير قضائهم الإداري الذي كان ممسوكاً من قبل السلطة السياسية، ليصبح مفوضاً ومستقلاً عنها في نفاذ الأحكام الإدارية والقضائية الصادرة عنه. وكان الفضل في ذلك لقضاته الشرفاء الذين تحملوا أعباء السلطة السياسية بإرادة قوية وحكمة في التعاطي. ونحن في لبنان لا نستطيع بالتأكيد مقارنة قضائنا المترهل بالقضاء الفرنسي الأعرق جذوراً، لكن يمكننا الاستفادة من دروسه ومن أسرار نجاحه. ويبقى على عاتق القضاة اللبنانيين أن يحرصوا على انتزاع هذه الاستقلالية بالاعتماد على مناقبيتهم وإخلاصهم في العمل، ونيل ثقة الشعب بهم قبل أي اعتبار آخر، ولن تنفع القوانين الإصلاحية المزمع إبرامها في المجلس النيابي في تكريس هذه الاستقلالية، قبل تكريسها من قبلهم بمزيد من وقفات الضمير الحر والإنساني، وتمسكهم بالقيم الأخلاقية، ومبادىء العدالة والإنصاف، مهما اعترض سبيلهم من مكائد أو معوقات سياسية أو أمنية أو إجرائية، وتحقيق الأمن الاجتماعي والانتظام العام في المؤسسات الدستورية للدولة اللبنانية.

وفي النهاية، لا بد من استمرارية التحقيقات الجنائية في هذا الملف الشائك، في جو من التضامن مع ذوي الضحايا وآلاف المتضررين من آثاره المدمرة، من دون أي تمييز بين أصحاب الحقوق الذين جمعتهم المصيبة الواحدة من أبناء شعبنا من جميع الطوائف والمناطق على حد السواء. وإن تصويب مسار التحقيقات هذه يجب أن لا يشكل عقبة دون استمراريته في خدمة العدالة وبلسمة جراح الوطن وعدم التعاطي الكيدي مع القضاة الذين يتولون هذه المهمة بصدق وإخلاص. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها