الجمعة 2022/04/29

آخر تحديث: 10:41 (بيروت)

غرق كل لبنان وليس زورق طرابلس

الجمعة 2022/04/29
غرق كل لبنان وليس زورق طرابلس
الفاجعة أصابت فكرة الدولة والوطن اللبناني (Getty)
increase حجم الخط decrease

قبل مئة عام من الآن تقريباً، حين أعلن عن لبنان الكبير من على درج قصر الصنوبر على لسان الجنرال غورو، لم تكن كل المناطق اللبنانية جاهزة لهذا الإعلان المبارك.

بقيت مدينة طرابلس فترة طويلة رافضة لفكرة الانضمام إلى الوطن الوليد.

ربما استشعرت أن ضمها إلى هذا اللبنان سيكون عقاباً دائماً لها من دون معرفة السبب.

مرد هذا الكلام عن طرابلس هو الفاجعة الجديدة التي أصابت العاصمة الثانية للبنان، بعد سلسلة من الفواجع المتلاحقة من دون استراحة أو توقف.

يخال المرء حين يستعرض مسلسل الأحداث التي عصفت بهذه المدينة أن القدر اللبناني المشؤوم قد وضع طرابلس نصب عينيه.

قبل فترة السبعينيات كان الجنوب اللبناني محط الاهتمام والاختيار من قبل النكبات اللبنانية، فالجنوب تمتع سابقاً بأعلى نسبة فقر وحرمان وتنكيل وإهمال واضطهاد. وهو ما أسس فيما بعد لمعادلات سياسية عديدة وصولاً إلى ظهور حركة المحرومين وكل حركات اليسار الرفضوي والتصرفات الراديكالية في أدب الزجل السياسي اللبناني.

وإذا كان العدو الاسرائيلي هو بالمجمل سبب بؤس وشقاء ومشكلات الجنوب، فإن هذا العدو لم يكن على حدود طرابلس حتى تتلقى هذا الكم من البلاء والاستهتار والحرمان.

طرابلس (والشمال عموماً) تفوقت على غيرها من المدن والمناطق اللبنانية. فحظيت بأعلى نسبة فقر وأمّية وحرمان وإهمال، وفي المدة الأخيرة، بأكبر نسبة تنكيل واستهتار واستهداف، ليس من الدولة اللبنانية وأجهزتها فقط، بل من قادتها أو من ادعى أنه من قادتها والأوصياء عليها والمسؤولين عنها.

الدولة اللبنانية بكل مشاريعها واهتماماتها السابقة، أبان فترة الرخاء والازدهار، مارست تجاه المدينة كل صنوف الإهمال والتجاهل.

صحيح أن معرض طرابلس الدولي كان نتاج فكر ودفع من الدولة اللبنانية، وتحديداً نتاج الفكر والرؤية الإنمائية للرئيس فؤاد شهاب، لكن منذ أن أفل عهد الجنرال شهاب مع رؤيته الدولتية التنموية، وأنجز المعرض الفريد معمارياً على أيدي المعماري البرازيلي العالمي اللامع أوسكار نيماير، بقي هذا المعلم فارغاً تذريه الرياح ويحاكي الخواء ويؤنس الهواء والعواصف الساحلية التي تعصف وتضرب جنباته، بعد أن هربت منه واستبعدت عنه كل المشاريع والأفكار المفيدة.

لم يكن إهمال الدولة اللبنانية هو العامل الوحيد الذي لعب لعبة إفقار وإهمال طرابلس، بل إن الوجود العسكري السوري لم يرحم المدينة ولا أهلها، فأمعن مع الوجود الفلسطيني المسلح المتفلت في استباحة واستغلال طرابلس والتنكيل بها، وهي التي تعد من أغنى مدن المتوسط في آثار العمارة العربية والإسلامية.

وكل ذلك كان و لا يزال، انتقاماً من رقي طرابلس وترفعها. ومن يطلع ويتابع أدبيات ومذكرات بعض رموز نظام البعث السوري عن نظرتهم لطرابلس وحقدهم على عائلاتها، يعرف مدى عمق الكره والازدراء لهذه المدينة، التي كانت أول من تلقت ولفظت طلائع أفواج داعش وفتح الإسلام ولقنتهم درساً في الوطنية اللبنانية والانتماء إلى لبنان العربي الواحد الموحد في معارك نهر البارد مع الجيش اللبناني.

رفض أهل طرابلس أن يدفن في مقابرها من أطلق النار على الجيش اللبناني، وخرجت المدينة حين انتصر الجيش على الإرهاب تزف أبطالها رقصاً ودبكة واحتفالات، وكانت النتيجة عقاب أهلها عبر مسلسل الاشتباكات بين باب التبانة وبعل محسن، لتحطيم إرادة العيش الواحد وإخضاعها لإرادة من كان يخطط لضرب لبنان من الشمال.

مظلومة مدينة طرابلس ومقهورة إلى حدود لا تحتمل ولا يمكن وصفها، لكن هذه المدينة الوفية للبنان أكثر من أي منطقة أخرى، ترد بعد كل نكبة بتمسكها بلبنانيتها وأصالتها الوطنية أكثر من السابق.

المركب الذي غرق بمن فيه، ولم يُعرف حتى الآن حقيقة من كان على متنه وكم هو عدد الضحايا الذين غرقوا، وظروف وتفاصيل رحلتهم، وربما لن يُعرف، لم يكن إلا غرقاً لزورق لبنان كله وليس زورق بضع عشرات من الطرابلسيين المنكوبين واليائسين.

في هذه الفاجعة الأليمة أصيب أول من أصيب فكرة الدولة والوطن اللبناني. إذ أن حالة تبخر وتلاشي الثقة باليوم والغد من قبل المواطنين، وترسُّخ حالة اليأس من المستقبل، دفعتهم للبحث عن هذه المغامرة البائسة للهرب من جحيم لبنان.

في السنوات الماضية عاش العالم على أخبار نزوح السوريين المبرر إلى دول العالم فوق أية خشبة أو حسكة، أو شبه زورق، هرباً من حرب التدمير والإبادة التي أصابت بلدهم.

شبعت أسماك المتوسط من لحوم السوريين الغرقى، ويبدو أن الدور تحول إلى لحوم اللبنانيين والطرابلسيين، طالما أن المحنة مستمرة في لبنان ومستعرة.  

وإذا كان النزوح السوري مبرراً، هرباً من البراميل والحرب المخيفة والمدمرة والإبادة المستمرة لهم في بلدهم أو على حدودهم، فكم هي عميقة مأساة لبنان لكي يشعر عشرات المواطنين من طرابلس بضرورة الهروب على متن زورق يتسع لعشرة أشخاص فقط.

الجيش اللبناني، المؤسسة التي تبدو حتى الآن الأكثر تماسكاً في شبه هذه الدولة المهلهلة، أصيب في صميم سمعته، لأن الغرق حدث أمام أعين جنوده وبين أيديهم.

لا يمكن الأخذ بكلام الموجوعين من الأهالي والقبول باتهام الجيش بالوقوف خلف حادثة الغرق، لكن في المقابل لا يمكن القبول بأن الذي جرى كان بعيداً عن بعض الإهمال والشطط والتكبر والخفة والاستعلاء من قبل وحدات الجيش التي كانت هناك حول الزورق وبالقرب منه.

ما جرى ليس حادثاً عابراً. وما تبقى من شبه دولة كما الجيش، مُطالب قبل غيره بكشف الحقائق واتخاذ الخطوات العقابية، وإلا فإن هذا الغرق إذا لم يعالج بشكل صحيح، فإنه سيغرق معه ما تبقى من لبنان من دون الكثير من التأخير، والإشارات ظاهرة وواقفة على الطرق.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها