الثلاثاء 2022/01/18

آخر تحديث: 11:40 (بيروت)

ليس من ميثاق لبناني ملزم غير الدستور

الثلاثاء 2022/01/18
ليس من ميثاق لبناني ملزم غير الدستور
مصطلح الميثاقية اختُرع في العهد العوني (Getty)
increase حجم الخط decrease

لن نعود هنا إلى المعنى اللغوي العام لكلمة ميثاق، وهي من الوِثاق، أي القيد الشديد، ولا إلى معناها القرآني، وهو العهد المؤكد باليمين أو نحوه، ومنه قول الآية الكريمة: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ»، ولا إلى معناها الاجتماعي، بل سنعوّل على معناها السياسي الاصطلاحي الحديث فحسب.

مفهوم مصطلح الميثاق
إن هذا المصطلح ترجمة لكلمة charte الفرنسية وcharter الإنكليزية؛ أما الترجمة الشائعة بكلمة pacte فغير دقيقة، لأن الـ pacte يعني العقد أو الحلف أو المعاهدة، وأصل معناه السلم، فتطور إلى المعاني التي أشرنا إليها، ويكون في السياسة بين عدة دول أو بين الدولة وطرف أجنبي. أما كلمة charte فأصلها يوناني بلفظ خارتس، ويعني الورقة أو الرسالة أو الشيء المكتوب عامة، ويعني اليوم الخريطة، ويوحي قرابة لفظية ومعنوية بكلمة قرطاس العربية وكلمتي خريطة وخارطة المعرّبتين. وتدل هذه الكلمة في المصطلح السياسي على نظام مكتوب ومعلن يُلزِم مجموعة من الناس أو الهيئات الخضوعَ له، سواء وقّعته سلطة عليا (الملك أو الرئيس أو مجلس إدارة، إلخ..) أو وقعته المجموعة نفسها وألزمت نفسها الخضوع لأحكامه. والمثال على ذلك ميثاق الأمم المتحدة Charte des Nations Unies. حتى العقد pacte يوجب في معناه السياسي الحديث أن يكون موقّعاً من الإطراف المتعاقدة.

ما يسمى الميثاق الوطني ليس ميثاقاً
أما ما يسمى الميثاق الوطني اللبناني الناشئ سنة 1943 فليس مكتوباً، ولم يصدر عن سلطة عليا، ولم يوقّعه أحد، ولم تقرّه المؤسسات الدستورية المعنية، بل هو تسمية مغلوطة استخدمها الرئيس بشارة الخوري في مذكراته لاتفاق شخصي شفهي وسرّي جرى بينه وبين الرئيس رياض الصلح قبل الاستقلال، وقبل توليهما السلطة، وليس ما يؤكد دقة المضمون الذي أشار إليه الرئيس الخوري، لأن الطرف الآخر المفترض أنه شارك فيه لم يذكر هذا الاتفاق في أي من خطبه أو أوراقه أو أحاديثه، في ما نعلم، وكان متوفى حين أشار الرئيس الخوري إليه؛ ومن نافل القول أنه لا شهود عليه، فهو ليس ميثاقاً بالمعنى الاصطلاحي القانوني، ولا يلزم أحداً، فوق أنه محدود المساحة. إذ يقتصر على طلب الالتزام بالتخلي عن الحماية الغربية -والمقصود بذلك الحماية الفرنسية للمسيحيين- وعن الوحدة العربية -التي يحلم بها المسلمون وكثير من العروبيين المسيحيين- وهو ما لعله تُرجم من بعد بعبارة في الدستور تقول إن لبنان ذو وجه عربي؛ وبصرف النظر عن مقدار الدقة في وصف مضمونه فينبغي الملاحظة أنه اتفاق على سلبيّتين لا على موجبتين، أي أنه لا يُلزم بأي فروض، بل يشير إلى مكروهين، إذا صح التعبير، أو على تنازلين، فهو صفقة سرّية وليس ميثاقاً.

اتفاقات مشابهة لاتّفاق الخوري الصلح
وقد جرت في لبنان اتفاقات مشابهة، ولكن علنية ومكتوبة، وربما أكثر أهمية من ذلك الاتفاقِ، ومنها البرنامج المرحلي للحركة الوطنية اللبنانية الذي أعلن في 8 آب 1975، وكان مشروع دستور متقدم دخلت كثير من أفكاره في دستور الطائف، ووقعه عدد كبير من ممثلي الأحزاب اليسارية وتلك الموصوفة بالوطنية والتقدمية؛ ومثله التحالف أو التيار الذي سمي سنة 2005 بقوى 14 آذار أو ثورة الأرز، والتحالف أو التيار الذي وصف في العام نفسه بقوى 8 آذار؛ ومثله ورقة التفاهم التي وقعها سنة 2006 في كنيسة مار مخايل كل من العماد ميشال عون بصفته رئيساً للتيار الوطني الحر، وذلك قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، كما هو معروف، والسيد حسن نصر الله بصفته أميناً عاماً لحزب الله؛ ومثله كذلك ما سمي بإعلان بعبدا الصادر سنة 2010 عن رئيس جمهورية عامل ومنتخب دستورياً هو العماد ميشال سليمان -وهو أمر غير متحقق في الاتفاق الذي ذكره الرئيس الخوري- فضلاً عن أن غالبية الفرقاء السياسيين اللبنانيين وقعته؛ ولئن غاب سعد الحريري عن الاجتماع الذي اتفق عليه فيه، فقد ناب عنه فؤاد السنيورة. لكن كل هذه الاتفاقات التي يفوق أكثرها الاتفاق المفترض بين الرئيسين الخوري والصلح أهمية ومشاركة وتمثيلاً، لم تقرّ في مجلسي الوزراء والنواب، ولم تصدر في قوانين أو مراسيم، ولذلك بقيت غير ذات أثر قانوني، وظلت غير ملزمة، مع أن لبعضها كل ما يحمل المعنى الحقيقي للميثاق.

تأويلات متعددة لمصطلح الميثاقية
ولهذا فإن مصطلح الميثاقية الذي اختُرع في العهد العوني، ونُسب إلى ميثاق 1943، وادَّعى رئيس مجلس النواب براءة اختراعه، ولم يلبث الرئيس عون وتياره أن أرهقوا الناس بترداد ذكره ومحاولة التعويل عليه، بل تقديمه أحياناً على الدستور، لم يرتدِ مفهوماً واحداً بل أوّله كلٌّ حسب الاتفاق الذي عقده مع الآخرين، أو وفق ما يستجيب لمصالحه ورؤاه الإيديولوجية الخاصة؛ وهذا الأمر اقتضى بعض المتحذلقين أن ينسبوا إليه ما ليس فيه، محاولين توسيع مضمونه بالزعم أن البيان الوزاري الأول بعد الاستقلال تفصيل له، مع أن البيان المشار إليه لا يومئ إلى ذلك الاتفاق باللفظ الصريح ولا بالتورية ولا بالكناية؛ فتوسيعهم للمضمون لا سند له ولا دليل عليه، إذن، ولا علاقة بين معنى الميثاق ومعناه؛ ومنذ متى كان البيان الوزاري ميثاقاً أو دستوراً؟ إنه خطة عمل تلتزم الحكومة تنفيذها ولا تقيّد بها حتى الحكومة التالية لها، فهي ليست قوانين، وليس لها صفة الإلزام، وهل يجوز أن يُتخذ بيان حكومي كُتب تحت انتداب فرنسي فعلي واستقلال غير منجز، أي قبل جلاء القوات الفرنسية بسنتين، أن يُلزم جميع الحكومات اللبنانية منذ النصف الأول من القرن العشرين حتى الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وأن يعامل معاملة الدستور، بل فوق معاملة الدستور؟ لقد أريد من هذا التأويل الغريب نسبة المناصفة الطائفية إلى اتفاق سريّ مشكوك في مضمونه، وترسيخها من خلال المزاعم المنسوبة إليه، وزادوا على تلك المزاعم بدعةً من بدعهم الكثيرة المجافية للديموقراطية، هي وجوب أن تحضر كل المكوّنات الطائفية اجتماعات مجلسي الوزراء والنواب، فإذا غاب أحد تلك المكونات عُطّلت جلساتهما، وذلك لجبه ونقض الاتجاه المعادي للطائفية في دستور الطائف الذي يجعل المناصفة الطائفية موقّتة، وينحو إلى إلغاء الطائفية نفسها، وقد نجمت بدعتهم تلك لحاجة في أنفسهم، سرية أحياناً، وعلنية أحياناً أخرى.

ومثل هذه الحذلقة مورست في أول العهد العوني، إذ حاولوا أن يجعلوا لخطاب القسم معنى الميثاق، وكثيراً ما كانوا يسعون إلى اتخاذ مضامينه أحكاماً ملزمة، ثم لم يلبثوا أن كفوا عن ذلك بعد أن اعترض كثيرون عليه.

اتفاق الطائف ميثاق غير ملزم
لكن ما يمكن أن نصفه بالميثاق «وثيقة الوفاق الوطني» المسماة باتفاق الطائف، لأنها أقرت في مؤتمر علني، لا سراً بين شخصين، وكتبتها ووقعتها غالبية نيابية موصوفة تنتمي إلى مختلف الاتجاهات السياسية اللبنانية، ثم نشرتها في كتيّب، لكنها لم تُدخلها كلها في الدستور ولا في القوانين، بل اختار منها مجلس النواب ما اقتنع به، وعدّل بعض مواد الدستور بمقتضاه، وهذا ما يجعلها غير ملزمة باستثناء ما أدخل في الدستور منها؛ فالدستور كله هو الميثاق الوطني، وهو وحده الملزم لكل اللبنانيين، أما سائر وثيقة الوفاق الوطني فيبقى ذا قيمة معنوية وتاريخية هامة، لكنه لا يرتدي معنى الإلزام القانوني. ولقد يحاول بعضهم أن يخلط بين تلك الوثيقة وبين الدستور، فيزعم مثلاً أنه نص على اللامركزية الإدارية الموسعة، لكن هذه حيلة من الحيل السياسية التي لا تنطلي على عالم، ذلك لأن النص على اللامركزية ورد في الوثيقة فقط وأهمله مجلس النواب فلم يدخله في الدستور لمجافاته روح التعديلات التي أدخلت عليه بمقتضى تلك الوثيقة، ولاسيما في مقدمته.

الدستور هو الميثاق الوطني الملزم
والنتيجة أنْ ليس من ميثاق وطني لبناني ملزم سوى الدستور، أما اتفاق 1943 فهو كما يصفه الرئيس حسين الحسيني، عافاه الله، مجرد «رؤية أو شائعة أو صفقة خاصة وسرية»، والنظم السياسية والقانونية لا تعتدّ إلا بما هو علني ومكتوب ومبرم؛ حتى الأعراف الدستورية التي يرى بعضهم أنها تتمتع بقوة النصوص، تسقط حين تخالف النص الدستوري الصريح وغير الملتبس، وتسقط كذلك حين تنشأ في ظروف استثنائية، وخاصة إذا جرت بالإكراه، وذلك عندما تعود الظروف إلى طبيعتها. وكل الأعراف التي حاول الحكم العوني فرضها بالإكراه وبخرق الدستور باطلة، لأن الإكراه وخرق الدستور جريمتان، ولا يستقيم أن تصبح الجريمة عرفاً دستورياً.

لقد حاولوا إلغاء الدستور بتغليب ذلك المولود الهجين المسمى الميثاقية عليه، لأن عوناً كان في الأصل رافضاً للدستور ومحارباً له بصورة علنية؛ وحين أقسم على احترامه لم يكن في قرارة نفسه مؤمناً به، حتى إنه قرأ نص القسم بصورة مغلوطة، وأثبت سلوكه السياسي إرادة القضاء على ذلك الدستور بالممارسة، كما أثبتت ذلك مواقف وريثه في رئاسة التيار الذي بلغت به الوقاحة أن وصف الدستور بالنتن والعفن.

والآن بعد أن أوصلوا البلاد إلى قعر الهاوية، يريدون أن ينجزوا ما سعوا إليه، وذلك بجعل الوطن الذي نحروه أُضحية يقطعونها قطعاً قطعاً باسم اللامركزية الإدارية الموسعة، وكأنهم يحققون خطة الصهيونية العالمية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، الرامية إلى تفتيت العالم العربي والإسلامي، وجعل الشرق الأوسط دويلات ضعيفة خاضعة للكيان الصهيوني. والحمد لله أنهم طرحوا هذا المشروع المشبوه في زمن غير ملائم لتحقيقه، ولذلك وُلد طِرْحاً لا حراك فيه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها