الأحد 2024/01/14

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

طوفان الأقصى بين مؤيديه ومنتقديه وأبعاد مؤازرته

طوفان الأقصى بين مؤيديه ومنتقديه وأبعاد مؤازرته
طوفان الأقصى لم يكن بداية حرب (Getty)
increase حجم الخط decrease

كَثُر المؤيدون لطوفان الأقصى كثرة لا يمكن أن تقاس إلى قلة المنكرين له في العالم العربي خاصة، وبعض العالم الإسلامي عامة، وذلك لأنه بدا صحوة مدهشة للوجود الفلسطيني والعربي والإسلامي بعد نوم عميق للضمير العربي، وتجاهل للقضة الفلسطينية حتى لا نقول محاولة قتل لها وإعدام، وسعي دولي إلى محو فلسطين عن خريطة الأرض، وإحلال بعض الدول العربية الصداقة المزعومة العربية الصهيونية، وربما الأخوّة المدعاة، محل المقاطعة والمطالبة بالحق الفلسطيني ودرء الخطر الوجودي الذي تمثله الهيمنة الصهيونية على الشرق الأوسط.

لكن في المقابل ظهرت قلة تقول بأن الحرب بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني غير متكافئة البتة، بل هي عبث أفضى إلى تدمير غزة وقتل عشرات الآلاف من سكانها فضلاً عن أَضعاف هؤلاء من الجرحى والمفقودين والمشردين والمرضى والجياع والعطاش المهددين بالموت، وقد كان على المقاومة الفلسطينية أن تحسب لهذه النتيجة ألف حساب قبل قد أن تقدم على هجمها الطوفانية، كما كان على المقاومة الإسلامية في لبنان ألا تتورط في هذه الحرب فتعرض هذا البلد المريض إلى أخطار لا طاقة له بها من غير إفادة المقاومة الغزية بشيء مطلقاً، ويُخشى أن تقول بعد الخسارة: لو علمتُ.

إيجابيات طوفان الأقصى وسلبياته
أما الصحوة الفلسطينية، بل قل القيامة الفلسطينية، فأمر لا شك فيه، وقد جعلت الرأي العام العالمي حتى في الدول المحالفة للعدو الصهيوني يستيقظ على شيء اسمه الوجود الفلسطيني، ويقرّ بحق الفلسطينين بدولة مستقلة، ويستنكر الوحشية الصهيونية، واستغلالها المحرقة اليهودية التي كانت الذريعة لإنشاء الكيان الصهيوني، فيخرج من الخدعة التي انطلت عليه سنين طويلة، ويطالب بعضه بمحاكمة ذلك الكيان على جرائم الحرب والإبادة، فضلاً عن أن تلك القيامة بددت شعور اليأس الذي كاد يرين على نفوس الحركة العربية والإسلامية، وكل ذلك يعد مكسباً لا يقدر بثمن، ولو ضُحي في سبيله بمئات الألوف من الأنفس.

ولنفترض جدلاً أن تلك التضحية عبثية، وأن نتيجة الحرب معروفة، وهي أن التحالف الصهيوني الغربي سيفوز في الحرب، وأن الصهاينة سيحتلون غزة من جديد، وسيطردون الفلسطينيين منها، أو يخضعونها لإدارتهم من خلال طرف فلسطيني تابع لهم وليس له من الأمر إلا تنفيذ أوامر تل أبيب، واستخدامه بوصفه شرطياً يقبض على كل فلسطيني تشك سلطة الاحتلال في ميله إلى المقاومة، ويصمت عن إنشاء المستوطنات في أي أرض فلسطينية داخل غزة أو خارجها؛ أجل، لنفرض ذلك جدلاً، أفيَحسب أصحابُ هذه المقولة أن الحرب لم تنشب لولا مبادرة المقاومة الفلسطينية إليها؟

طوفان الأقصى والحرب المستمرة
ينبغي التذكير إذن أن الحرب على غزة بدأت منذ سنة 2008، وقد تعرض القطاع منذئذ لشبيه بما يتعرض له اليوم من قصف وهدم وقتل وتهجير، ومن استعمال الصهاينة للأسلحة المحرمة دولياً كالقنايل الفسفورية المسرطنة والقنابل الآجلة التفجير، وحوصر القطاع، فمنع عنه الوقود والدواء، وقطعت عنه الكهرباء، في هدف معلن هو القضاء على المقاومة الفلسطينية وعلى رأسها حماس، لأن العدو يرفض أي وجود فلسطيني مسلح يمهد لقيام دولة فلسطينية - ولا دولة بغير وجود مسلح ولو كانت حيادية - بل هو يرفض الوجود الفلسطيني كلية حتى إنه قد عمل، من بعد، على منع ذكر فلسطين في المراجع الغربية والإعلام وحتى في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى جعله مجرد ذكرها في بعض دول العالم جريمة. وقد سبق تلك الحرب وتلاها إعلان عدد من الدول بينها دول عربية، حماس منظمة إرهابية، بدءاً بالكيان الصهيوني بالطبع، ثم الولايات المتحدة الأميركية (سنة 1999) مروراً بكندا (سنة 2002) ثم الاتحاد الأوروبي (سنة 2003) ثم اليابان (سنة 2005)،الخ. أي إجازة قتالها واغتيال قادتها ومعاقبة مؤيديها؛ فلما تنامت شعبية حماس وحلفائها في غزة سنة 2008 قررت الولايات المتحدة والكيان الصهيوني إعلان الحرب عليها، واستمرت تلك الحرب ولا تزال مستمرة؛ فبعد الحصار والاغتيالات والتضييق على صيادي القطاع وإطلاق النار عليهم وإغراق قواربهم، عاد العدو إلى شن الحرب علانية على القطاع سنة 2012، ثم كرر ذلك سنة 2014، وسنة 2015، وسنة 2018؛ والمدهش أن الولايات المتحدة قد تقدمت في ذلك العام بمشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم يدين حماس وسائر منظمات المقاومة الفلسطينية، لكن المحاولة باءت بالفشل؛ ثم تجدد العدوان على القطاع سنة 2019 لكن لعدة أيام، واستمر الحصار، وتجدد العدوان بعد ذلك كذلك في السنوات 2020، 2021، 2022، إذ شن العدو الصهيونية الحرب على غزة في الخامس من تموز سنة 2022 في ما سماه الفجر الصادق، أي قبل طوفان الأقصى بنحو الشهرين!

صراع بين قتل الجريح وإنقاذه
فطوفان الأقصى لم يكن بداية حرب، بل هو رد على عملية الفجر الصادق، آخر معارك الحرب المستمرة التي لا يزال العدو يشنها بلا توقف ولا هوادة منذ سنة 2008 حتى سنة 2022، والتي كان ينوي متابعتها سواء شنت المقاومة هجومها على حزام غزة أم لم تفعل ذلك، لكن المقاومة فاجأته هو وحلفاءه هذه المرة واستبقت الحرب عليها، وهي تعلم مطامعه ومطامع حلفائه ومشاريعهم وخططهم التي تقضي بالقضاء على المقاومة وضم القطاع إلى الأرض المحتلة نهائياً ثم شق قناة بن غوريون عبرها وإقامة المشاريع الاقتصادية والسياحية على شواطئها. وما الحرب العالمية على الإرهاب الإسلامي المزعوم وعلى الأحزاب الإسلامية إلا الاسم الحركي للحرب على الفلسطينيين، وعلى غزة بخاصة لعلاقة مقاومتها بالحركة الإسلامية، وهي حرب لا تنفع الفتاوى فيها. والصراع قائم الآن بين السماح بخروج الجريح حياً رغم أنف الأطباء المزعومين الذي أعلنوا أنه يحتضر وأنه لا أمل بشفائه، وبين محاولة الإجهاز عليه على الطريقة النازية والاستيلاء على ثروته والتمتع بها.

وفي هذا الصدد لا ينبغي التذرع بعدد الضحايا للتخويف من الحرب، فما من دولة خضعت للاستعمار إلا وبذلت الدماء الغزيرة في سبيل تحرير أرضها، ومن ذلك الجزائر وفيتنام وكمبوديا، ولو ثَنَتْ خسارةُ معركة أُحُد المسلمين عن خوض معارك أخرى لما كان أصحاب الفتاوى اليوم مسلمين. هذا مع ملاحظة أن العدو لا يزال يمعن في حرب الإبادة ويصعدها ويضاعف كل يوم أعداد الشهداء الفلسطينيين، ويعد بحرب طويلة لا تقل عن سنة، وهي مدة كافية لتدمير غزة كلها وإبادة معظم أهلها وأصابة من ينجو منهم بعاهات دائمة وربما تهجيرهم، مع ذلك، إلى بلاد أخرى. لكن هذا لا يعالج بالاستسلام للنازية الصهيونية بل بالمطالبة باتخاذ مواقف رادعة وعاجلة من المجتمع العربي والإسلامي أولاً والدولي ثانياً.

أبعاد مشاركة المقاومة اللبنانية في الحرب 
ولا وقت للتذكير هنا بما حدث في سوريا والعراق وغيرهما من فظائع طائفية ومذهبية تحت مسميات خادعة، فإبّان الحرب تتناسى الشعوب خلافاتها الداخلية لأن العدو الخارجي يهددها جميعاً. لكن لا بد مع ذلك من الإجابة عن هذا السؤال: ماذا تجنى المقاومة اللبنانية من المشاركة في الحرب على العدو، وهل ينبغي تذكيرها بالثمن الباهظ الذي بذلته سنة 2006، ولَفْتُها إلى تفاقم الخسائر البشرية والمادية والعسكرية التي يتكبدها الجنوب اللبناني اليوم وتهجير كثير من سكانه إلى مناطق آمنة؟

لندع الدافع العقدي جانباً مع عدم التقليل من أهميته، ولنتجاهل الإيمان بالقضية أيضاً، ولنلحظ أن الجواب عن تلك الأسئلة قد سبق، وهو أنه لا بد من التضحية بالكثير من أجل ربح النفس والغد. فمن مصلحة المقاومة اللبنانية التصدي للعدو لأن شغله بعدة جبهات يرهقه ويصيبه في قدراته العسكرية والنفسية والاقتصادية؛ والأهم من ذلك أن فوزه في الحرب على غزة سيطمعه في نقلها إلى لبنان سعياً إلى ما يطلبه من الحدود الآمنة المنزوعة السلاح ومن اجتناب كل خطر يتهدده، فضلاً عن متابعة العمل على التطبيع والهيمنة السياسية والاقتصادية الصهيونية على الشرق الأوسط وسياسة التهجير الذي سيكون للبنان نصيب وافر منها. وكل ما يحكى عن التهدئة وتجنيب لبنان فظائع حرب شاملة إنما هو خداع وإرجاء لساعة الحقيقة التي يعدّ لها العدو، والسماح له بالتفرد بغزة أولاً، وبعدها التفرد بالمقاومة اللبنانية، وهكذا.

إن خوض المقاومة الحرب على الحدود اللبنانية إنما هو مبادرة استباقية مثل مبادرة طوفان الأقصى، وبدلاً من تأنيب المقاومة في فلسطين ولبنان لدخولها في الحرب ينبغي حث الدول العربية والإسلامية على قطع كل علاقاتها بالعدو والضغط عليه وعلى حلفائه بكل الوسائل لحمله على الانكفاء ووقف حرب الإبادة. ولا ينفع الاكتفاء بالصمت ابتداء في هذه الحال، ثم إطلاق المواقف الكلامية بعد ذلك - ونشيح الوجه عمن يخافون إغضاب الولايات المتحدة والصهاينة فيتخذون مواقف مستهجنة أو مائعة من قضية الصراع القائم وكأنهم أقرب إلى العدو منهم إلى فلسطين -. إن الدول العربية والإسلامية لو كانت تملك تلك الشجاعة لتبدلت نتائج المعركة، في أغلب الظن، لكن التردد والخوف وبعض الارتباطات الخاصة وبعض الاعتبارات السياسية منعها من ذلك، للأسف.

معركة وجودية
ليس من مسلم أو عربي بمعزل عن المعركة الفلسطينية، ويخطئ من يحاول النأي بنفسه عنها، ظاناً أن محاولته الانتماء إلى الحضارة الغربية لساناً وسلوكاً وموقفاً سياسياً ستأتيه بالسعادة والسلام وتشهد له بالرقي ودخول منتدى الدول الكبيرة وتزين صورته في أعين الغرب والشرق معاً. إن حكومات ذلك العالم تكره الإسلام، تأثراً بالتاريخ الذي يحكمها نفسياً وثقافياً، وبعلاقاتها الاستعمارية بالعالم الإسلامي، وكذلك لتماهيها بالصهيونية التي تنشر الأضاليل المشوِّهة لصورة العرب والمسلمين في كل مكان والمرسِّخة لمشاعر العداء لهم – والمسيحيون العرب مسلمون في مفهوم كثير من دول العالم – حتى إن بعض الشعوب سوغت إبادة المسلمين وتهجيرهم والاعتداء عليهم، كما حدث في ميانمار (بورما) والهند وتايلاند وأفريقيا الوسطى والصين. ومع أن الأوروبيين والأميركيين لا يشاركون في إبادة المسلمين مباشرة لكنهم يساعدون الكيان الصهيوني بالمال والسلاح والإعلام والإجراءات القانونية والإدارية والبوليسية على إبادتهم، كما أنهم يسعون إلى إبادة الإسلام نفسه بإلصاق تهمة الإرهاب به، وبالتضييق على المسلمين الغربيين أو المقيمين في الغرب وإكراههم على التخلي عن مفاهيمهم الدينية وعقائدهم واختياراتهم السياسية وحقهم في التعبير تحت طائلة الطرد أو السجن، ويكفي أن تنتقد الكيان الصهيوني حتى تعاقب بتهمة العداء للسامية.

وأخيراً، عبثية التمويه
إن الإبادة العالمية التي تصيب المسلمين والعرب هي من عمل حلفاء الصهاينة أو من أثر الدعاية الصهيونية نفسها، وحرب الصهيونية على فلسطين حرب وجودية تشنّ على كل المسلمين والعرب ولا يفيد معها خداع النفس في تبديل الانتماء والتبرؤ من الذات، فإن تبديل لون الذبيحة أو إلباسها ثياباً مزوّقة لا يمنع الجزار من ذبحها، وإلاّ تكن ذئباً أكلتك الذئاب. ومشروع إسرائيل الكبرى خطة لقضم مساحات شاسعة من الأراضي العربية لا من فلسطين وحدها، وللاستيلاء على المياه والثروات العربية؛ والذي ينعم به عدد من البلاد العربية اليوم قد يُحرَمه غداً حينما تسود الدولة الصهيونية، كما حُرمت مصر والسوادان المطبعتين مع العدو من حقوقهما المائية في النيل بحماية العدو نفسه لأثوبيا، وكما حرمت سوريا من حقول النفط بسيطرة أميركا الصهيونية عليها، وكما تنازل لبنان عن حقل كاريش النفطي للكيان الصهيوني. ليست المعركةُ إذن معركةَ حماس ولا الجهاد الإسلامي ولا حزب الله؛ إنها حرب شاملة على الوجود العربي والإسلامي؛ ويكفي أن نلحظ أن مجلس الأمن الدولي قد سارع إلى إصدار قرار يدين اعتراض الحوثيين للسفن المتجهة نحو فلسطين المحتلة، وحيل بينه وبين إصدار أي قرار بإدانة الإبادة الصهيونية المتمادية في غزة، حتى ندرك تلك الحقيقة العنصرية الفجة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها