الأحد 2022/09/11

آخر تحديث: 10:50 (بيروت)

ما همهم بعبدا بل بعبدات

ما همهم بعبدا بل بعبدات
زوبعة الفتاوى الدستورية ترمي إلى تسويغ بقاء عون في بعبدا (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

لا يذهبنَّ الظن بالقارئ إلى بلدة بعبدات، بل المقصود جمع بعبدا بوصفها مقراً لرئاسة الجمهورية. وقد تخيل كثيرون أن زوبعة الفتاوى الدستورية التي توسلها العهد وتعمُّدَ تفريغه للمؤسسات الدستورية إنما يرميان إلى تسويغ بقاء عون في بعبدا فحسب؛ والحقيقة أن تلك غاية لا يسوءهم بلوغها، لكنّ لهم غاية أخرى أخطر بكثير، وهي عقد مؤتمر تأسيسي يذهب بالنظام اللبناني إلى التقسيم تحت مسميات صريحة أو ضمنية -وهو حلم كثير من الطائفيين ومنهم خصوم التيار نفسه- أو إلى إقرار النظام الرئاسي المقنّع الذي يبقي السلطة التنفيذية المطلقة في يد رئيس الجمهورية، ويحيي الامتيازات الطائفية، فيكون العهد بذلك بطل الحقوق المسيحية، ويستعيد ما فقد من زعامة طائفية، ويبدو الأحق بتمثيل المسيحيين وتبوّؤ سدة الرئاسة. ولهذا هو يثير الفوضى الدستورية، ويختلق الشروط التعجيزية في تأليف الحكومة، ويهدد بالفوضى الأمنية، فربما استطاع استدراج الآخرين إلى الموافقة على عقد ذلك المؤتمر الذي طالما طالب به، ولا تزال قناته الفضائية تجهر به حتى اليوم، وتقترح أن يكون برعاية رئيس الجمهورية، كما كاد باسيل بتاريخ 06/09/2022 يعلن ذلك صراحة في مؤتمره الصحافي المليء بالمتناقضات والمغالطات والمفتقر في معظمه إلى أي منطق، ولاسيما حين ألح على اللامركزية الإدارية الموسعة -وهي لا تكون إلا في دولة اتحادية-! وفي التاريخ نفسه أعلن أحد كبار التجار، ومعروف إسهام التجار في الفساد، خشيته أن يصنَّف لبنان دولة فاشلة، ودولة قراصنة، ولم يجد الحل إلا في الفيدرالية، وكأن تقسيم بلد القراصنة إلى دويلات يقضي على القرصنة؟ علماً أن الفيدرالية اتحاد بين عدة دول لا تقسيم للدولة الواحدة إلى عدة دويلات.

الفتاوى الدستورية والإرث الطائفي
واللافت في الأمر أن بعض الاختصاصيين في القانون، وليس كلهم، يجارون القصر في فوضى الفتاوى الدستورية، مع أنهم في صورة من الصور مستقلون عنه، وكأن الهوى الطائفي يصيب حتى بعض العلماء المستقلين، فلا يتحررون منه. إنه شعور مستقر في اللاوعي الجماعي ويصعب معه التزام الموضوعية العلمية الخالصة. ومن ذلك الهوى اعتبارهم أن رئيس الجمهورية يمثل طائفته في الحكم، وأنه دليل تميّزها وتفوقها على سائر الطوائف، وغير مقبولٍ أن تذهب صلاحياته إلى ممثل طائفة أخرى والتضحية بتلك الفوقية، ولو لفترة انتقالية؛ ولهذا رأينا بشارة الخوري، أول رئيس جمهورية لبنانية في زمن الاستقلال، يعين قبيل انتهاء ولايته فؤاد شهاب رئيساً للوزراء سنة 1952، وذلك ليمنع رئيس وزراء مسلم من تولي صلاحيات رئيس الجمهورية في الفترة الانتقالية؛ وكذلك فعل أمين الجميل سنة 1988 إذ عين ميشال عون رئيساً للحكومة للسبب نفسه مع وجود رئيس وزراء مسلم هو الدكتور سليم الحص؛ ويضيق اليوم عون وصهره وحزبه بوجود مكلف برئاسة الوزراء مسلم هو محمد نجيب ميقاتي الذي يفترض أن تناط بحكومته صلاحيات رئيس الجمهورية في حال حصول شغور في سدة الرئاسة، ولم يعد الدستور يسمح بإقالته وتعيين رئيس وزراء مسيحي مكانه، ولذلك يحاول رئيس الجمهورية أن يكرهه على تأليف حكومة يتمتع فيها هو بالثلث المعطل على الأقل، وربما يوزّر فيها صهره، وميقاتي يرفض ذلك، ولهذا نشأت أزمة حكومية وتفاقمت، ولا تزال تتفاقم.

ولقد درج هذا العهد على أن تكون اليد العليا في تأليف الحكومة لرئيس الجمهورية، وعلى تأويل النصوص الدستورية تأويلاً منحازاً لتأييد تلك العادة، ولم تستطع كل البراهين على خطأ ذلك التأويل تغيير ذلك السلوك. هنا لا يعود الدستور هو المستند الحقيقي بل الهوى الاجتماعي السياسي، وكذلك فكرة التميز والتفوق. وهذا الهوى هو ما حاول الدستور الجديد أن يعالجه، لأنه كان من أسباب النزاعات الطائفية، وهو أيضاً ما يأبى هذا العهد التخلي عنه لرفضه الدستور الجديد أصلاً، بل ربما شتمه، ولأن ذلك الهوى راسخ فيه، وكان مسوّغ وصوله إلى السلطة. إن الهوى الاجتماعي السياسي لا يخضع للمفاهيم العلمية، ولاسيما لمفهوم أن رئيس الجمهورية في النظام البرلماني حكَمٌ لا حاكم. وقد سمعنا بالأمس نائباً تغييرياً جديداً معروفاً بعلمه واعتداله، يطلب أن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية حكَماً وحاكماً! علماً أن رئيس الجمهورية في النظام البرلماني رمز يُشْرف من علٍ لكنه لا يشارك في الحكم، ولذلك تنتفي عنه كل تبعة في حال قيامه بوظيفته. ولو كان يتمتع بحق المشاركة في الحكم لوجب أن يخضع للمساءلة، خلافاً لما ينص عليه الدستور. من هنا خطأ بعضهم في الطلب إلى المرشحين لرئاسة الجمهورية أن يعرضوا برامجهم للحكم؛ والحقيقة أن ليس هذا مطلوباً منهم بل من الحكومة ورئيسها، أما المطلوب من رئيس الجمهورية فهو أن يتمتع بصفات مميزة في العلم والأخلاق والخبرة تؤهله ليكون رمزاً لوحدة الوطن، مستعداً بتربيته الخلقية والوطنية لاحترام الدستور والقوانين، وذا حس وطني صادق يحمله على المحافظة على استقلال الدولة ووحدتها، أي ألا يكون جاهلاً سفيهاً غير قادر على الخضوع للدستور والقانون، وغير مؤهل للحفاظ على استقلال الدولة ووحدتها، بل ميال إلى تقسيمها فئوياً أو حزبياً أو طائفياً أو عقارياً.

إشكالية سحب التكليف
ومن الفتاوى القول بحق رئيس الجمهورية في سحب التكليف من رئيس مجلس الوزراء إذا لم يخضع لإرادة القصر، وإذا اتهمه رئيس الجمهورية من أجل ذلك بالتهرب من تأليف الحكومة، مع أن النظام البرلماني -وليس الدستور اللبناني إلا على صورته- لا يمنح رئيس الجمهورية الحق في فرض رغباته على رئيس مجلس الوزراء ولا المشاركة في تأليف الحكومة واختيار وزرائها والحكم عليهم وتصوّر برنامج عملهم، وهو ما أكده كبار فقهاء الدستور في لبنان. بل تقتصر صلاحية رئيس الجمهورية في هذا المجال على أمرين: الأول هو التثبت من أن الدستور والقانون لا يمنعان صراحة بعض المرشحين للوزارة من توليها، إنْ من ناحية الانتماء الوطني أو من ناحية السجل العدلي -وليس من الموانع ما ينسب إلى الميثاق الوطني، أو الميثاقية، أو التوازن الوطني، أو ما يسمى المشاركة أو التشاركية-؛ والثاني توقيع مرسوم التشكيلة الحكومية التي يتقدم بها إليه رئيس مجلس الوزراء، وله بين هذا وذاك أن ينصح وأن يقترح اقتراحات توجيهية عامة، لكن ليس له أن يفرض رأيه ولا رؤيته على الرئيس المكلف.

ومن أطرف ما تفتق عنه ذهن أحد القضاة السابقين أن لرئيس الجمهورية أن يسحب التكليف ما دام مرسومه لم يصدر، لأن المرسوم هو المستند، ويستطيع الرئيس بالتالي أن يدعو إلى استشارات نيابية ملزمة جديدة، معتبراً أن اختيار النواب لرئيس مجلس الوزراء ليس انتخاباً. هذا القاضي العبقري يجعل الاستشارات النيابية هزواً يستطيع رئيس الجمهورية أن يأخذ بها متى يشاء أو يتجاوزها متى يشاء، وكأن النواب عمال في القصر "روحوا روحوا، تعوا تعوا"، أو ربما مجرد مستشارين للرئاسة، وكلما خالف اختيارُهم أهواءه أو لم ينصع الرئيس الذي كلفوه لرغباته، لجأ إلى إعادة الاستشارات، وربما ظل يفعل ذلك حتى انتهاء ولايته. لقد تحسّب المجتمعون في الطائف لمثل هذا المحذور، فرفضوا أن يقيدوا رئيس مجلس الوزراء بمهلة لتأليف الحكومة كيلا يتاح لرئيس الجمهورية المماطلة، وإقالة الرئيس المكلف عند انتهاء المهلة. أفيُحتال على الأمر بأن يسوّغ للرئيس سحب التكليف؟ علماً أن تقييد رئيس الوزراء بمهلة أمر نافع شرط أن يقيد رئيس الجمهورية بمهلة موازية لتوقيع التشكيلة التي يقدمها له الرئيس المكلف وإصدار مرسوم بها، ما دامت غير مخالفة للدستور مخالفة صريحة لا تأويلية.

ثم من قال إن الانتخاب لا يكون إلا بالتصويت عبر الصندوق أو برفع الأيدي؟ إن الاختيار انتخاب، وإلا لم يفز برئاسة مجلس الوزراء إلا من ينال أكبر عدد من أصوات النواب في الاستشارات الملزمة.

وشيء آخر هو أن الشفهية لا تنفي عن التسمية صفتها الدستورية ما دامت علنية، وإلا فكيف تتم تسمية رئيس الجمهورية وتسمية رئيس مجلس النواب؟ لقد أراد هذا القاضي أن ينقذ من قالوا إن الرئيس قد كَلّف ويستطيع سحب التكليف، مستندين إلى مبدأ توازي الأشكال أو الصيغ، فجوبهوا بأن التكليف يصدر عن النواب وليس عن رئيس الجمهورية، فجاء هو بهذا الرأي الغريب. ويُسأل ذلك القاضي: إذا أثبت أحدهم أنه مقيم في شقة سكنية منذ مدة بغير عقد إيجار، وشهد على ذلك سكان البناية، ورفع صاحب الشقة دعوى طالباً إخلاءها، فهل يحكم له القاضي بذلك لسبب وحيد هو افتقار الساكن إلى سند الإيجار، أم يقر المستأجر على إقامته، بالشروط التي تكون لأمثاله ممن يحوزون عقداً، ريثما تنتهي المدة التي تكون لهؤلاء؟ أم أصبح رئيس الحكومة المكلف أقل من مستأجر؟ ولو عقد القاضي الزواج بين اثنين بصورة علنية وبحضور عدة شهود، ولم يسجل ذلك على ورقة، ثم دخل الزوج بزوجته، فهل يعد زواجهما فاسداً؟ إن صدور المرسوم تسجيل توكيدي لواقعة دستورية ملزمة، لا ينفيها عدم صدور مرسوم بها، ولاسيما إذا كان من يفترض فيه إصدار المرسوم قد ماطل في إصداره لحاجة في نفس يعقوب.

واجتهد أحد المحامين فزعم أن لمجلس النواب أن يسحب التكليف إذا قررت أكثريته ذلك! وهذا رأي غريب آخر، يتجاهل أن رئيس مجلس الوزراء شخصية اعتبارية لا يجوز الاستخفاف بها، فهي ذات مكانة وحقوق لا يلغيها إلا القيام بعمل لا يليق بمنزلتها، أو يخالف الدستور، وإلا جاز لمجلس النواب إقالة رئيسي الجمهورية والنواب، وجاز للمقترعين إبطال نيابة من انتخبوهم. إن للمواطن، أيّ مواطن، حقوقاً في الوظائف العامة والمناصب، فإذا تمت له شروط توليها، وأُقر على ذلك، لم يجز لأحد من بعد أن يقيله منها إلا بسبب منصوص عليه في القانون. وليس في الدستور ما ينص على إمكان سحب التكليف من رئيس مجلس الوزراء.

الحكومة المستقيلة والفراغ والأهلية
ومن الفتاوى الغريبة أن فقيه القصر أقر في الثالث والعشرين من أيار الماضي بحق حكومة تصريف الأعمال في تولي صلاحيات رئيس الجمهورية عند شغور سدة الرئاسة، لكنه أراد في العشرين من آب أن يعود عن رأيه، ربما بضغط من الصهر، لكنه حرصاً على سمعته العلمية استعمل عبارة سوريالية، هي أن رئيس الجمهورية "ملتزم عدم مراكمة الفراغ على الفراغ"! وقد فهم من عبارته منع تراكم الفراغ الرئاسي على الفراغ الحكومي عند انتهاء ولاية رئيس الجمهورية. وهذا يوحي منح الحق للرئيس نفسه في ملء الفراغ الرئاسي. وقد عبر الصهر عن ذلك في صورة أخرى، هي: إذا بقيت حكومة تصريف الأعمال فسيبقى رئيس الجمهورية يمارس مهامه في القصر. فشبهة ضغط الصهر شِبه ثابتة. ويجب التنبيه هنا إلى أن تصريف الأعمال ليس فراغاً بل تلافٍ لفراغ حكومي، وأنّ تولي الحكومة مهام رئيس الجمهورية هو تلافٍ لفراغ رئاسي، فالدستور لا يسمح بالفراغ، ومن غاياته الحفاظ على استمرار المرافق في عملها السليم.

ومن آثار الهوى السياسي الاجتماعي الزعم أن الحكومة المستقيلة غير مؤهلة لتولي صلاحيات رئيس الجمهورية في حال شغور سدة الرئاسة، ولا أقول الشغور الرئاسي، بدعوى أنها منزوعة الصلاحيات، على ما قاله التيار ونسبه إلى فقيه دستوري مزعوم، أو أنها حكومة ميتة، وهو تعبير مقتبس عن الدكتور حسن الرفاعي، وقد تراجع عنه؛ أو أنها محدودة الصلاحيات! وكل ذلك كلام خارج الدستور؛ وقد بيّنا في مقالة سابقة أنْ ليس في الدستور نزع صلاحيات، بل فيه استعمال الصلاحيات في حدود تصريف الأعمال بمفهومه الضيق، ونزيد هنا أن الحكومة المتمتعة بصلاحياتها، مهما كانت حدود تلك الصلاحيات، حكومة حية ولا يصح وصفها بالميتة، وهي ليست محدودة الصلاحيات بل ضيّقتها، وقد وضّحنا الفرق بين الأمرين في مقالة سابقة، فلا شأن لذلك بنوط صلاحيات رئيس الجمهورية بالحكومة وكالة، لأن تصريف الأعمال عمل حكومي، وتولي صلاحيات رئيس الجمهورية عمل رئاسي يضاف إلى أعمال الحكومة، ولا صلة له بتصريف الأعمال. إن من بلغ رتبة الأستاذية في الجامعة وتقاعد، ثم استحال على عميد إحدى الكليات الاستمرار في العمل، فإن للجامعة أن تتعاقد مع هذا الأستاذ المتقاعد للقيام بأعمال العمادة ريثما يعيّن عميد جديد، ولا يمنعه التقاعد من تولي هذا العمل.

الحكومة المستقيلة وصلاحياتها وثقة المجلس بها
وقيل أيضاً إن الحكومة المستقيلة -وحكومة ميقاتي ليست في الحقيقة مستقيلة ولا مقالة من قبل مجلس النواب، بل معتبرة مستقيلة لبدء ولاية المجلس- لم تحز ثقة هذا المجلس الجديد، فهي غير مؤهلة لتولي صلاحيات رئيس الجمهورية، لكن لو صدر فيها مرسوم ونالت هي نفسها ثقة ذلك المجلس، فإنها في هذه الحال تستطيع تولي تلك الصلاحيات! هذا كالقول إن أستاذ الجامعة لا يستطيع التعليم فور بلوغه السن القانونية، لكنه إذا خضع لاختبار الدخول إلى السلك التعليمي الجامعي ونجح سمح له بالتعليم، وكأنه لم يخضع من قبل لذلك الاختبار ولم يمارس التعليم العالي ولم يشارك في الأعمال الجامعية الهامة. إن الحكومة المعتبرة مستقيلة كانت تمارس أعمالها بفعل ثقة المجلس السابق بها، والمرفق الدستوري، وهو هنا المجلس، استمرار لا انقطاع فيه، فهو مؤسسة وليس مجموعة أشخاص، ولذلك فتلك الحكومة صالحة للعمل الوزاري.

وبعض من أقر بحق الحكومة المستقيلة في أن تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية ادعى بأنها تتولى تلك الصلاحيات في حدود ضيقة، وحظر عليها بعضهم ما وصفه بالصلاحيات اللصيقة برئيس الجمهورية، وعندما حاول أحد القائلين بهذا الرأي أن يعدد الصلاحيات اللصيقة وجدها كل الصلاحيات، ولذلك اضطر إلى التبرع للحكومة، أجل التبرع، بصلاحية واحدة هي صلاحية توقيع المراسيم والقوانين، باستثناء المراسيم التي يتفرد رئيس الجمهورية بتوقيعها. على أن هؤلاء لم يقدموا بين يدي رأيهم أي سند دستوري. والحقيقة أن الدستور حين نص على نوط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء وكالة، لم يجتزئ منها أي صلاحية، ولو شاء أن يقصر تلك الصلاحيات على التوقيع لَنَصّ على ذلك. لكن كَبُر عند بعضهم إيكال تلك الصلاحيات لمجلس الوزراء وذلك للأسباب الاجتماعية النفسية التي سبق ذكرها.

الحكومة ومجلس الوزراء والمجلس الوزاري
ومما أرادوا تقييد الحكومة به زعمهم أن المادة الدستورية 62 نصت على نوط صلاحيات رئيس الجمهورية بمجلس الوزراء، وليس بالحكومة، وقد جعلوا لمجلس الوزراء شرطاً هي أن يكون "مجتمعاً"، مؤكدين أنه لا يجوز صدور أي قرار عنه إلا بالاجماع. وهذا كله خارج الدستور، فمجلس الوزراء هو الحكومة، وفق ما تدل عليه المادة 64، وإن كانت كلمة مجلس تعني أن الحكومة تغدو مجلس وزراء حين يجتمع أعضاؤها في جلسة قانونية. وليس في الدستور كله كلمة مجتمعة، لكنها وردت في الدستور القديم يوم كان في لبنان مجلسان: مجلس نواب ومجلس شيوخ، وقد قضت المادة 58 القديمة بدعوة رئيس الجمهورية لهما إلى اجتماع مشترك حين يختلفان في شأن أحد القوانين، فلا يصدَّق ذلك القانون إلا "إذا وافقت عليه الهيئة مجتمعة بالغالبية المطلقة". فصفة مجتمعة لا تعني مجْمعة، بل ملتقية في اجتماع. وشرط الاجتماع القانوني لاتخاذ القرارات شرط مسلّم به على كل حال، لكن لا تتقيد الحكومة في أعمالها في حالي الصلاحيات الواسعة أو الضيقة إلا بنص المادتين 64 و65 من الدستور.

ويصفون اجتماع الحكومة في غياب رئيس الجمهورية بالاجتماع الوزاري في مقابل اجتماع مجلس الوزراء برئاسته، ويلزمون الاجتماع الوزاري بالامتناع من اتخاذ قرارات أساسية، خاصين ذلك باجتماع القصر الرئاسي، وهذا كله ينطلق من الهوى الطائفي أيضاً. فالأصل، كما بيّنا دائماً، أن الحكومة تجتمع في السراي برئاسة رئيسها، ولها أن تعالج مختلف المواضيع والقضايا الإجرائية بغير استثناء، أساسية أو غير أساسية، وأن تتخذ في شأنها القرارات المناسبة، فإذا حضر رئيس الجمهورية ترأس الجلسة من غير أن يشارك في التصويت. أما الاجتماع في القصر الجمهوري واعتباره هو مجلس الوزراء فبدعة مخالفة للدستور؛ فالدستور ينص على اجتماع الحكومة في مقرها في بيروت، وليس في القصر الجمهوري، ورئيس الجمهورية يأتي إلى ذلك المقر متى شاء لكن الحكومة لا تذهب إليه في قصره. وحضوره وترؤسه أمران ظرفيّان، إذن، تدل عليهما عبارة "عندما يحضر"، وليسا هما القاعدة.

التراتبية الرئاسية 
إن تلك المقولة نابعة من التراتبية الرئاسية العرفية التي لا مسوغ لها، وهي: أن رئاسة الجمهورية هي الرئاسة الأولى، ورئاسة المجلس هي الرئاسة الثانية، ورئاسة الحكومة هي الرئاسة الثالثة، حتى زعم بعضهم أن قرار إلغاء ألقاب الرؤساء والنواب والوزراء الذي اتخذته الحكومة يشمل كل أولئك المسؤولين إلا رئيس الجمهورية الذي يجب أن يدعى بلقب الفخامة دائماً! والحقيقة أن النظام البرلماني يجعل مجلس النواب أم المؤسسات الدستورية، فعنه تنبثق كل الرئاسات والوزارات والقوانين، ولا مسوغ لجعل رئيسه دون رئيس الجمهورية، وكأننا في نظام رئاسي. كما أن مجلس الوزراء هو المؤسسة الإجرائية التي تضع السياسة العامة للدولة ومشاريع القوانين والمراسيم وتتخذ القرارات الضرورية لتطبيقها، وتسهر على تنفيذها، الخ. وتعيّن الموظفين وتصرفهم وتقبل استقالتهم وفق القانون، واختيار رئيسها في كل الدول البرلمانية، باستثناء لبنان، أهم بكثير من اختيار رئيس الجمهورية، ولذلك لا مسوغ لاعتباره دون رئيس الجمهورية أو تابعاً له. لكنها من آثار الطبقية الطائفية الموروثة التي يجب تركها.

النتاج
وفي النهاية، لا يكاد يخفى على ذي بصيرة أن أكثر مواقف التيار وأنصاره وبعض المستقلين غير المحصنين من الطائفية، وإن زوبعة الفتاوى الصادرة عنهم، كل ذلك خبط عشواء يومي لا يثبت للنظر العلمي الحيادي؛ والضعف الذي تُرمى به حكومة ميقاتي على علاتها، أو التشكيلة الحكومية التي قدمها إلى رئيس الجمهورية، ليس شيئاً بالقياس إلى ما يؤخذ على حكومة عون سنة 1988؛ فهي لم تعرض بياناً على مجلس النواب، ولم تنل من ثَمَّ ثقته، على حين أن حكومة ميقاتي ظفرت بثقة المجلس السابق؛ وكانت حكومة عون ذات لون واحد، وفي حكومة ميقاتي كل ألوان الطيف اللبناني؛ ولم يكن في حكومة عون سياسي واحد، ورئيس حكومة ميقاتي على الأقل سياسي قديم؛ ولم يتوافر لحكومة عون ما يوصف بالميثاقية، بل كانت نتاج تعصب طائفي شديد، ولذلك أفضى نشوءها إلى انقسام البلاد شطرين على الأقل، وإلى نشوب حروب حزبية وطائفية دامية، وإلى سلوك مجاف لدور أي حكومة انتقالية وهو إجراء الانتخابات الرئاسية، فظلت البلاد بلا رئيس لمدة سنتين تقريباً، واحتل عون القصر، وخيَّل للناس أنه رئيس الجمهورية، واستعمل قوى الدولة المسلحة لغايات شخصية، فلما جرى مؤتمر الطائف حاربه.

ولا نستطيع إلا الربط بين هذا الواقع وبين التهديد الضمني بالخيار بين العودة إلى ما قبل اتفاق الطائف أو التقسيم بمختلف مسمياته، وكل ذلك مدخل إلى الفتن المتصلة، وليس إلى فتنة واحدة. والذين يفكرون في تقويض النظام الحالي من أجل إنشاء أنظمة طائفية بديلة، كمن يفكر في هدم قلعة صيدا أو جبيل أو طرابلس لإقامة أبنية سكنية متعددة مكانها. لكن القلاع صامدة ومن الصعب تهديمها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها