الجمعة 2021/06/11

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

إزاحة المركزية الوطنية.. والإطاحة بالطرفية الحاكمة

الجمعة 2021/06/11
إزاحة المركزية الوطنية.. والإطاحة بالطرفية الحاكمة
التسوية التي حملت لبنان الجمهورية إلى الوجود، استمرّت إسماً متحركاً (المدن)
increase حجم الخط decrease

في لبنان، صارت كل مفردة جامعة، أو توحي بالجمع، مفردة اصطلاحية. اليوميات السياسية، التي بلغت مع التشكيلة الطوائفية الحالية، حدّ "اللامعقول" الإداري الرسمي، أطاحت تفاصيلها بالمشهد التراكمي الداخلي، الذي ظنَّ "الأهل" أنّهم وَلَجوا إلى رحابه.

قد لا يطيل النقاش الخلافي إثنان، إذا ما قال أحدهما هذا الـ"لبنان"، أو إن قال الآخر منهما هذا "الشعب"، فالإثنان يعلنان ما كان لديهما من مضمر شك حول لبنان افتراضي، وحول شعب مُتَخيّل، لجهة اندراج هذا وذاك، في سياق وطنية عامة، لا تقوم من دون أُسُسها عمارة الأوطان.

لبنان الصغير
لبنان الذي أعلنوه كبيراً، كان مرفوضاً من قبل "الصغار" في أطرافه، ومن جانب فئات من الصغار، في مركزه. رفض لبنان الجديد جاء على ألسنة من اعتادوا جبل الإمارة، وعلى ألسنة من اعتادوا السباحة في بحر سلطاني كانت العثمانية أمواج مياهه الأخيرة. مسيحيون وجبال، ومسلمون بين سلطنة وصحراء، وخلافات مستحكمة بين مرتفعٍ ومُنبسط، لم تفلح في تذليلها الصناعة الفرنسية، ولا الحياكة التي تولاّها النسّاجون الداخليون، بعد الفترة الانتدابية.

بين مركز وأطراف، أقام التمييز التكويني اللبناني الأصلي، وما كان حدوداً مقفلة، بين متصرفية وولايات، بات مُشرعاً على التداخل، الذي ولّد إشكالاته، وضخّم تناقضاته، التي لم تتحول إلى قضايا فرعية في الماضي، ثم استعادت زخمها مع كل اضطرابٍ أهليّ، ومع كل نزاع "جماهيري" مسلّح.

التسوية التي حملت لبنان الجمهورية إلى الوجود، استمرّت إسماً متحركاً. حصلت القلقلة في عهد بشارة الخوري، رئيس الاستقلال الأول، ثم كانت الزعزعة مع كميل شمعون، الرئيس الثاني، ثم عاد الكيان المصنّع إلى سيرته الأولى، بعد غياب المحاولة الشهابية، وما زالت السيرة تنتج نسخاً من التفاهة السياسية، ومن الحقارة التمثيلية، ومن السخرية الحقيقية، التي يتقنها النسق الرسمي الحالي، ويبتكر روايات التلاعب المختلطة، التي تغذي التضليل "الجمهوري"، وتستدعي تصفيقه الحاد، ودهشته البلهاء الدائمة.

وإذ يعيش اللبنانيون الافتراضيون، يوميات حياتهم الحقيقية، فيتجرّعون من أقداحها كل سائل مرّ، فإن أسئلة تتدافع إلى الواجهة، لتطرح بمجملها مسائل ابتدائية، لا تبدو أنها من صُنف القضايا الإشكالية المفتوحة على احتمال حلول سريعة.

سؤال المركز-الأطراف
لم يتجاوز معنى المركز في لبنان المصطلح الجغرافي، فهو بقي مرتبطاً بجبل لبنان، وعندما اتّسعت الجغرافيا السكانية، توسّع الجبل بشكل يكاد يكون حصرياً، بحيث ظلّ هو، جغرافياً وسكانياً وامتيازات، مركزاً لذاته، يعيد إنتاجها، أي ذاته، ويوفّر لها ما يرسّخها، وما يضمن لها تفوقها فوق مساحتها الجديدة.

ضمن هذه العملية الاستحواذية، ظلّت الجغرافيا المضافة إلى لبنان الجديد، حزام يد عاملة، وجموع استهلاك في سوق "البورجوازية" الخدماتية الناشئة، وأفراداً في أجهزة السلطة الرسمية. هذا الدور الذي أُعطي للأطراف، ظلَّ شبيهاً بدور مدن الصفيح الأوروبية والأميركية، لجهة الإهمال ونقص الخدمات، واليد العاملة الرخيصة، ولجهة التفاوت التعليمي وتوفير مقومات البنية الإنتاجية، الزراعية والصناعية وما سوى ذلك.

كخلاصةٍ أولى، من معادلة المركز-الأطراف، ظهر عجز المركز عن تعميم مركزيته، وعجز تالياً عن تأمين استمرارية القبول بعجزه.

وفي خلاصةٍ ثانية، اتسعت الأطراف، نزوحاً وتهجيراً، فطافت على مُدن المركز، خاصة في العاصمة، وفي عواصم المحافظات، ثم أرفقت اتساعها بانخراط في العملية الاقتصادية، على تشوُهاتها، فحازت، بالعمل هنا، وفي الخارج، مراكمة مالية، انعكست على مستويات التعليم، وعلى قفزات في "الترقي" الاجتماعي، ثم دقّت باب السياسة، الذي ما كان له أن يبقى موصداً في وجه ما أصاب البنية التكوينية الأهلية، من تغيرات وتبدلات في مواقع أطراف هذه البنية.

أما الخلاصة الثالثة، فتمثلت في عدم استيعاب قوى المركز وآلياته، لحقيقة تبدلات المواقعية، وأرفقت عدم استيعابها برفضها لنتائجها، وبعدم الانفتاح على تسويات مع مقتضياتها.

ماذا كانت نتائج الانغلاق: اللااستقرار، والتنابذ، والاحتراب، أي كل النزاعات الداخلية التي تقع مسؤوليتها أولاً، على السلطة الرسمية، الافتراضية هي الأخرى، هذا إذا ما أردنا الالتزام بجادة الكلام الأول حول بدئيات الكيانية اللبنانية الحاضرة.

الأطراف في المركز
لن يكون مفيداً تكرار المقولة العامة السائدة عن "ترييف المدن"، هذا لأن الظروف الحالية التي يجتازها لبنان، لا تترك مجالاً لشرحٍ مستفيض، حول طرفية البنية الرسمية الحالية. سبق القول عن المركز الذي حاول أن يظلّ مركزاً، لكن من دون المسؤوليات التي تفترضها وتتطلبها المركزية. المركز العاجز عن احتلال قلب المركزية، فَقد تسوويته، لصالح سلطويته، وهذا ما حصل في "لبنان الكبير"، الذي استحوذ مركزه على "الغُنْم"، وترك للأطراف القمع، وفتات الغُنْم، والكثير من الغُرْم.

في مقابل عجز المركز الأهلي الرسمي، هناك عجز الطرف الرسمي، الذي اقتحم المركز، فشارك في نهب غنمه، ورسّخ أعمدة تسلطه الأهلي، من خلال فتات الغنم الرسمي الذي استحوذ عليه، ومن خلال أموال الخارج التي توزعت عليه الطرفيات الأهلية.

والحال، أو على صعيد واقع الحال اللبناني الراهن، يخضع "البلد" لتسلّط طرفية رسمية متداخلة، قوامها مَنْ أُزيح عن مركزيته، بسبب من أدائه، وبأسباب من منافسيه، ومَنْ غذّى طرفيته الأهلية بذهنية وآليات التقاسم المغانمي للمقدرات التي يفترض أنها وطنية.

السياسة الصعبة
مواجهة الطرفية الحاكمة والمتحكمة، لها سياقها الصعب، لكن أفقها غير مسدود. لقد حاول المقصيّون خارج معكسرات الطرفية، من مداخل سياسية ونقابية واجتماعية عامة، وهذا ما يجب تجديده، والسعي إليه. لقد بات مؤكداً لدى كل من ينظر بدراية، أن عهد الطرفيات الحالي، لن يضع اللبنانيين إلا أمام خيار السيء والأسوأ.. لذلك، لا بديل من التأسيس للإطاحة بهكذا معادلة.. وبأبنائها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها